اللص الأنيق


#اللص_الأنيق

مصعب البدور
يحدث أحيانا أن تجد لصّاً قريبًا منك موجودًا في محيطك، لكنه لصّ غير عادي، لا يسرق المجوهرات أوالمال كما يتوقع الناس أو كالصورة النمطيّة عن اللّصّ، ولا يختطف الأبناء الصغار كما يحدث في سيناريوهات التخويف التي تنتجها الأمهات للصغار، فهذا اللصّ مظهره أنيق جداً، ولا يضع عصبة على العين، ولا يضع لثاماً، يشاركك الأماكن والمعارف، وأحيانا يتعثر بك دون معرفة، هذا اللص هو لصّ الحرف والكلمة ولصّ الأفكار.
الحقيقة أنّ هذا اللصّ لا يحس بما يفعل ويظنّ أنه لا يرتكب جرماً، ويعتقد أنه لا يسبب ألما لأحد، كما أنه لا يشعر بفعله وقبح حقيقته. وهم كثر فكم من إنسان أخذ كلماتك ووضعها في حساباته الشخصية دون نسبة ليوهم الناس أنها له ومن صنعه، وكم مرة جلست تفكر في رسالة وتؤلف كلماتها حتى استقامت كما تحب، ثم بعد أيام يرسلها شخص آخر إليك، ويسألك عن رأيك بالكلمات التي ادعاها لنفسه وكلّ جهد فيها أنه أزال اسمك ووضع اسمه.
مسوغات نفسيّة :
يعتقد اللص الأنيق أن جميع الناس بنفس مستواه من المعرفة والثقافة، وأن جميع الناس بنفس مهاراته اللغوية أو البحثيّة، ويعتقد أيضا أن الجميع مشابهين له بالسلوك، فينسخ ويلصق ثم يقول أمر عادي جدا فالجميع ينسخ ويلصق، أحيانا تصل به الحال إلى أن يصف الصاحب الأصلي للنص أنه نسخه ولصقه، وهنا يجب على الجميع أن يتذكر أن مهارات الناس متفاوتة وقدرته على الإنتاج العلمي والأدبي مختلفة فبعضهم كاتب مبدع وبعضهم باحث مفن وبعضهم لا يحسن بناء فقرة.
توقيعات إجتماعية :
مما لا يخفى على أحد أوضاع التواصل الاجتماعي ومواقعه التي اجتاحت العالم وانتشرت حمى التواصل الاجتماعي بين الأجيال، وبدت مشاركات المواطن العربي واضحة بالعبارات على حالته أو الملصقة على حائط اليوميات هي الفن الأدبي الشعبي الطاغي والذي يُكتب بمستويات مختلفة فبعضها بالعاميّة وبعضها بالفصيحة، وإن هذا الفن أشبه ما يكون بفن التوقيعات العربي الذي ظهر في عهد الصدّيق رضي الله عنه، والذي كان يقدم فكرة مكثّفة واضحة بعبارة قصيرة،وصار فن الحالة في عصر التواصل الاجتماعي ظاهرة واضحة يعبر الناس به عن حالاتهم النفسيّة والعاطفية، يشاركون فرحهم وغضبهم، ويتراشقون أيضا بهذه التوقيعات، أما ما يجعل الموضوع خارجا عن إطراه، وهو كثرة الناس الذين يأخذون هذه التوقيعات دون نسبة لأصحابها، ولهم أشكال متعددة، ومن هؤلاء اللصوص من يأخذ جزءاً من العبارة ،ومنهم من يأخذ العبارة كاملة ويكتب أسفل منها منقول، ليعطي لنفسه مصداقيّة، ومنهم من تكون جرأته أكثر فيأخذ العبارة كاملة ويغير بعض الكلمات ثم ينسبها لنفسه، والبعض يتخطى حدود التصور فيأخذ العبارة دون تغيير ويتهم الآخر بأخذها منه.
وهناك مجموعات خطرة جدا من اللصوص فمنهم من يسرق شيئا أكثر أهمية من التوقيعات كمقالة علمية أو مقالة تحليلية فتتفاجأ بها في إحدى المدونات أو على حسابات شخصية نقلت تماما فلم يترك منها حرفا ولا فاصلة إلا وسرقه، ثم بعد أن يمتدح الناس هذا اللص بمئات التعليقات، يأتي ويضع تعليقا مقتضبا “مما أعجبني فنقلته لكم”وهنا يزداد التشجيع والتصفيق.
وستجد شريحة أخرى يسرقون أفكارك وكلماتك ثم يحورونها،وهنا يتحدثون عن مستوى التقارب مع كاتب النص، لا التطابق معه في ما كتب، وهذه المجموعة تتمتع بالذكاء أكثر من غيرها.
ويحدث أحيانا أن تجد محتالا، لا يسرقك بل يظهرك بمظهر السارق حسدا من عند نفسه أو من باب المنافسة غير النظيفة، فتجده ساكنًا ساكتًا طوال الوقت يهز رأس حتى تفرغ من حديثك أو كتابتك، فيقول لك :”أحسنت لقد عبرت عن فكرتي التي كنت حدثتك عنها وناقشتك بها في ما مضى، لقد صغتها بشكل جيد” والحقيقة أنك لم تناقشه ولم تسمع منه أصلا وهذه الزمرة تعتبر من أخطر الأنواع وأخبثها، وأمّا الأخطر على الإطلاق فأولك الذين يطعنون بطريقة ذكيّة ماكرة كأن يقول اللص :” كم هي لطيفة هذه الكلمات، تشبه كلاما قرأته أو سمعته قبل مدة”، فهكذا يجعل منك سارقاً، ويصنع من نفسه أسطورة الثقافة والتحقيق العلمي، ولو دققت وراء هذه الفئة لوجدت آخر ما قرأه هو درس القراءة في الصف السادس أو السابع.وتعتبر هذه المجموعة الأعلى سميّة بين لصوص الفكر والكلمات.
منعطف خطير
ربما تكون سرقة التوقيعات الاجتماعية ظاهرة سلبية، لكنها تبقى أقل خطورة من ظاهرة الغزو على الأعمال العلميّة، فقد عانت الحركة العلمية عبر الأزمنة من هذه الظاهرة فكثيرا ما وجدنا باحثاً غزا أبحاث رفيقه التي لم تنشر بعد، أو أخذ بحث زميله الذي قدمه كمتطلب لإكمال مادة دراسية وسارع بنشره ناسبا البحث لنفسه، مستغلا جهل زميله بطريق النشر والتحكيم، وتوسعت هذه الظاهرة لتصل مؤخرا لبعض الأساتذة الذين يأخذون أبحاث طلابهم وينشرونها مستغلين مكانتهم وسلطتهم على الطلبة، كما تطورت الأمور عند البعض أن يقدم رسالة علمية مأخوذة عن مجموعة من الباحثين، ويلحّ السؤال الأكبر في هذا المقام على الجميع ” كيف مرّت هذه الرسالة من أمام لجنة كاملة ؟ وكيف ناقشتها اللجنة وهي تحوي خمسة أعضاء ؟ وكيف أجازها أعضاء اللجنة ليحمل صاحبها درجة علمية ؟
ربما الإجابة على هذه التساؤلات ستكون محرجة كثيرًا ومؤلمة جدًّا، لذلك من الأفضل أن يجيب كل واحد منّا نفسه دون الجهر بالإجابة.
امتدادت عميقة :
لا بد لهذه الظاهرة من جذور تمتد إلى مراحل الدراسة الأولى، فَنَقْلُ الطلبةِ الموضوعات الكتابية من غيرهم، ككتابتها لهم من قبل معلم خاص أو من قبل ذويهم، أو من خلال نقل الموضوعات من المواقع الاليكترونية دون أن ينبههم أحد إلى الخطأ الذي اقترفوه، ودون أن يكشفهم أحد المصححين ساهم في هذه الظاهرة فالمعلم يصحح ويضع علامة مرتفعة ويمضي، أو يثني على العمل المنقول بل ويرشّحه ليكون أنموذجا للعمل وفي هذه الحال نكون ربينا في نفوس الأجيال سهولة سرقة الكتابات والأفكار، وكبّرنا في نفوسهم التمادي على الملكيّة الفكريّة.
إضاءة
إن الوقوف ضدّ هذه الظاهرة مسؤولية جماعيّة، تبدأ من المؤسسات التعليمية، التي يجب أن تكون حائلا دون هذه الظاهرة بتدريب الطلبة على البحث العلمي، وخلق جو من التحكيم الحقيقي لأبحاث الطلبة، وكذلك للصحف والمجلات والمدونات دور كبير في متابعة الموضوعات والتحقق منها قبل قبول نشرها، وكذلك مسؤولية الأفراد باالتحلي لنزاهة الشخصيّة و التزام التوثيق بذكر المصادر التي رجع إليها أو أخذ منها مع ذكر أصحابها، وهي مسؤوليّة أسريّة بتربية الأبناء على الأمانة والنزاهة في كل شيء وفي كل الظروف، وأيضا تعتبر هذه المسؤولية مسؤولية رسمية وذلك بتجريم هذه الظاهرة ومحاكمتها، وقد تبنت الأنظمة الرسمية قوانين الملكيّة الفكريّة .
ولننتبه فإن لصوص الفكر يختفون وراء صفات مميزة كالذوق في التعامل واستخدام مصطلحات يستعملها المثقفون، والجميع يصفق لهم بدل أن يصفقوا عليهم.
لذلك عزيزي المواطن العربي احذر اللص الأنيق كما احذر أن تتمثّل سلوكه.

#عملي_أنا أولى#بنجاحه_ أو بفشله

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى