#الكرة_الأردنية و #صراع #الهويات #القاتلة
ليس من الأسلم فقط تحليل الظواهر والحديث عنها بشكل عملي وفكري موضوعي محايد بُمجرد انقضاء الحدث ومرور وقت على حصوله؛ وإنما الأكثر فائدة لطرح المسألة للنقاش المفضي لعرض الإشكالية دون عواطف ومواقف يفرضها الحدث، ومن ثم استعراض الحلول بعد البت في جذورها وأسبابها وتداعياتها. وعلى هذا يمكن القياس على الملابسات المؤسفة، وما نتج عن المباراة الأخيرة في الدوري الأردني لكرة القدم بين ناديي الوحدات والفيصلي، والتي انتهت بفوز الأول في ‘المعركة الكروية’، وخسارة الثاني، المؤسفة لكلا الطرفين في الواقع بعيداً عن التعصب الكروي!
حقيقةً دون خلق الأعذار والمبررات التلطيفية والذرائعية الملطفة للأمر، المسألة ليست مباراة كرة قدم بين ناديين، أو تعصب كروي جاف يحدث في كل أرجاء العالم، بل هي أعم وأشمل، وتشير إلى مشكلة حقيقية ترجع جذورها القديمة للعام ١٩٢٢م، حين رعت بريطانيا أثناء انتدابها على الأردن، وفي مسعىً منها لهدم اللحمة الوطنية الشرق أردنية في الكيان الذي لم ينل وقتها استقلاله؛ مقولة “الأردن لشرق الأردنيين”، من منطلقات استعمارية بريطانية فرنسيه، هدفت لإذكاء الكراهية الشعبية لشرق الأردنيين تجاه من لجأ من السوريين القوميين للأردن هرباً من قمع الاحتلال الفرنسي لسوريا، وقد فشلت بالطبع!
نفس المقولة تتكرر مجدداً ولكن مع اختلاف المكوِّن، حيث يتم بشكل ممنهج من أطراف ذات توجهات لا تخفى أهدافها توجيه الكراهية تجاه الأردنيين من أصول فلسطينية، عبر ترديد مقولة ‘الأردن للأردنيين أصلاً وفصلاً’، من قبل جماعات مأزومة على رأسها العنصريون الجدد، مع هامش حرية عالي بممارسة الكراهية، وتغاضي مقصود، أو متغافل عنه، أو جاهل لخطورة تجزيء المجتمع الأردني وتصنيفه وقولبته في جماعات إثنية مختلفة دون الانتماء الوطني الواحد للجميع، والذي يحكم العلاقة بين المواطن والدولة من جهة، ويأطر العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أطياف المواطنين بمختلف هوياتهم المعرفية، وجذورهم ومعتقداتهم، والتي شهدت عل الدوام تآلفاً في الوطن الأردني الواحد متعدد الثقافات والمشارب والهويات الفرعية.
أما الرياضة، وإن كانت بكل دول العالم تشهد موجة عنصرية وكراهية متزايدة، وهو ما لا ننكره، إلا أنها وبعد الواقعة الرياضية الأخيرة المؤسفة، تحمل معاني ودلالات أبعد من كونها مجرد تعصب رياضي، حيث تشير على أرض الواقع لخلل مجتمعي، مرده أسباب سياسية واقتصادية وتنموية، برعاية غير معلنة من جهات ‘مصالح’، أو تغاضي لجهات تحمل طابعاً مؤسساتياً، تسعى – وقد نجحت منذ عقود إلى حدٍ ما -؛ لخلق هويتين رياضيتين أردنية وفلسطينية من خلال ناديا الوحدات والفيصلي، لتكريس الانقسام المجتمعي، وتثبيت الإلهاء كاستراتيجية منفعية من واقع أهداف مرسومة يجري العمل عليها بواسطة إذكاء الكراهية والتعصب والعنصرية بشكل عام، والرياضية على وجه الخصوص.
في علم النفس الاجتماعي يشير التعصب الرياضي لحالة يلجأ فيها مكون اجتماعي لمجموعات معينة، للالتجاء لهوياتها الفرعية كوسيلة لتفريغ الكبت الناتج عن افتقارها لحقوق معينة. ولذلك، تجد أن المكون الآخر هو الأقرب والأسهل لتوجيه الغضب تجاهه بدلاً من مواجهة ومجابهة مصدر المشكلة الحقيقية. وهذا أمر ينبغي الأخذ به في الاعتبار لإدراك منابع هذا التعصب الرياضي المقيت وأسبابه الأساسية، الذي يقابله أيضاً واقع يستحق الإشادة، مرده تركيبة الأردن السكانية المتنوعة من أردنيين، وعشائر، وفلسطينيين، وسوريين، وشركس، وشيشان، وغيرهم من أقليات استوطنت الأردن في التاريخ الحديث قبل وبعد التأسيس، وهي في حقيقتها سر نجاح المملكة الأردنية الهاشمية كدولة للتعايش المشترك والتعدد الثقافي والديني والمذهبي، في ظل هوية أردنية مدنية واحدة حددها الدستور، وإن لم تتبلور أطرها بشكل رسمي الآن للحد من النبرات والاتجاهات العنصرية المتصاعدة. بالطبع، قد تكون الهوية الجامعة أحدها، لكنها هي الأخرى أحد أسباب الانقسام المجتمعي، بين من يراها ذريعة للتوطين الفلسطيني في الأردن وإلغاء حق العودة الفلسطيني، وبين من يعتبرها فاقدة لدعم الأغلبية والعشائر الأردنية لكونها لا تستند لإجماع شعبي. فيما يراها آخرون حلاً مؤقتاً مقبولاً ولكن ضمن إطار أكبر يشمل تبديد مخاوف مجموعات عرقية من فقدان مواقعها من جهة، وتحقيق مطالبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من أخرى، لضمان عدم نشوء أصوات تدعوا لهوية قومية عنصرية تقصي المكونات الأخرى لخلق ذات عليا تحقق المطالب الآنفة.
من المهم للمجتمع الأردني المتمدن والمتصالح مع نفسه سابقاً، والذي نجح على مدار عقود في تقوية اللحمة الوطنية، أن يعي أن التعصب الكروي للناديين، ليس سوا إرهاصات تم تخليقها لضمان السيطرة والسيادة وفرض الهيمنة المجتمعية من أطراف لها مصلحة باستمرار الكراهية المجتمعية لمآرب لا تخفى على الحصيف، ‘ففرق تسد’، نهج ما زال قائماً ويتم استخدامه للإلهاء والتشتيت، ولخدمة أجندات داخلية وخارجية على حدٍ واحد.
أما العشائر الأردنية، أي سكان البلاد الأصليين، فينبغي التذكير والإشادة أن العشائر بكونهم تاريخياً ومنذ الحقبة العثمانية، وصولاً للاحتلال ومن ثم الانتداب البريطاني على إمارة شرق الأردن، وبعد الاستقلال ليومنا هذا، خير حاضنة وداعم لفلسطين وشعبها، وللعديد من الأقليات المضطهدة في العالم، فاستقبلتها بكل رحابة رغم ضعف الإمكانيات الاقتصادية وهشاشة البنية التحتية للبلاد في الماضي. هي نفس العشائر في الماضي والحاضر، التي تعاني حتى اليوم من مشاكل اقتصادية وتنموية حضرية وبنى تحتية في مناطقها الأبعد عن العاصمة عمان، والمدن الرئيسية. لم تولى العناية الكافية، والتوزيع العادل، مما تسبب بعشائرية ضيقة، قادت لتمسك كل فرد بعشيرته كحاضنة أساس، واللجوء لها كحماية ووسيلة لبث شكواها. وفي نفس الإطار، تسببت لأن يقوم كل مسؤول بضمان خدمة مصالح عشيرته نظراً لما يجده من افتقارها ومكونها لأساسيات الحياة الاقتصادية، وذلك بدلاً من تركه المجال للهوية المدنية، والدولة ومؤسساتها الضامنة للعدالة والمساواة، للقيام بالمهمة بدلاً عنه.
عقب الحرب العالمية الثانية، أراد البريطانيون فصل الأردن عن جغرافيتها الطبيعية (سوريا وفلسطين)، ومنعها من الدعم العشائري المقاوم لفلسطين وسوريا، فأخضعوها للوصاية والانتداب المباشر حتى العام ١٩٤٦، ومع ذلك أثبتت العشائر وطنيتها ولم تخضع. وبالتالي، الزج بالعشائر الأردنية التي لا يستطيع أحد التشكيك بوطنيتها وأخلاقها وحاضنتها وإنسانيتها، والفلسطينيين، بأتون العنصرية القائمة بين ناديي الفيصلي والوحدات؛ جريمة كبرى يستفيد منها أعداء الأردن في الداخل والخارج، ويجب الوقوف ضدها ووأدها من جميع العقلاء من الفلسطينيين والأردنيين، على المستوى الشعبي والرسمي، لأن الاستمرار في التغاضي عنها، لا يهدد وحدة الأردن وسلامته، وإنما يؤذن بانفجار الكراهية في أشكال أخرى لن تكون فقط حصراً بالرياضة، وإنما ستمتد لتشمل جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مع التأكيد على أن المكون الأردني من أصول فلسطينية في المسألة يتحمل مسؤولية مشابهة للمكون الأردني. فرغم أن الدستور الأردني ينص صراحة أن من يحمل الرقم الوطني هو مواطن له كافة الحقوق وعليه كامل الواجبات؛ إلا أن هذا التحديد وعلى ما يبدوا لم يعُد كافياً لضمان السلم المجتمعي والتعددية الإثنية في الأردن، الوطن الواحد لجميع الأردنيين، وهو ما يتسدعي بدوره حلاً جذرياً لهذه الإشكالية، ولو إلى حين تحرر فلسطين واستقلالها التام، مع التأكيد على المسلمات المعروفة للقضية الفلسطينية الرافضة لفكرة التوطين والوطن البديل. حينها، ونراه قريباً بإذن الله لفلسطين حرة ومستقلة، لكل مقامٍ مقال.