تعتبر القراءة المصدر الأول والرئيسي للمعرفة بشتى أنواعها، ولا عجب أن بداية الكلام الآلهي في الرسالة المحمديّة كان « اقرأ «، فمن القراءة والإطّلاع انطلقت المعرفة الإنسانية التي ساهمت في تأسيس الحضارات الإنسانية على مر التاريخ، وأدّت من خلال التراكم المعرفي عبر الأجيال المتلاحقة إلى تطور الإنسان في ميادين الحياة المختلفة، وصولاً إلى ما نراه حالياً من إزدهار تكنولوجي، علمي، حضاري، وثقافي.
لقد ساهمت الترجمات التي قام بها المفكرون المسلمون الأوائل نقلاً عن الحضارات الأجنبية وأبرزها الحضارة الإغريقية في تحقيق نقلة نوعية لإزدهار الحضارة الإسلامية، وإنطلاقاً من هذه النقطة بدأت رحلة المعرفة العربية الإسلامية مستفيدة من الرسالة المحمديّة في الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي حيّرت الفلاسفة، وبهذا استطاعت الحضارة الإسلامية إضافة الكثير إلى المعرفة الإنسانية وساهمت في قفزة حضارية هائلة في تاريخ الإنسانية في مختلف ميادين الحياة العلمية والفلسفية والثقافية وفي حقول التاريخ والأدب، وشهدت الحضارة الإسلامية ولا سيما في عصر الأندلس منتوجاً ضخماً من الكتب والمخطوطات والدراسات الإنسانية التي سجلت حضوراً مميزاً للعرب والمسلمين في سجل الحضارة الإنسانية.
هذه المساهمة العربية الاسلامية في سلم التطور الإنساني كانت القاعدة التي بنى عليها الغرب قفزة هائلة أخرى في تاريخ الإنسانية مستفيدين بدورهم من ترجمات الكتب العربية، وتزأمنت هذه المرحلة مع فترة إنحدار فكري وثقافي عانت منه الحضارة الإسلامية بعد عصر الأندلس.
وبالنظر إلى ما يتمتع به جيلنا الحالي من وسائل لا نهائية للمعرفة وغير مسبوقة من ناحية الكم والنوع، وعلى رأس هذه الوسائل الانترنت الذي جعل العالم الكبير قرية تفاعليّة صغيرة، يستبشر المرء بقدرة الإنسان على تحقيق قفزات هائلة في تطور البشرية في وقت قياسي بالمقارنة مع الأجيال السابقة، ولكن المؤسف أن القراءة لم تعد من أولويات هذا الجيل بالرغم من سهولة الوصول إلى أي معلومة أو أي كتاب بأي لغة، حيث لا يتطلب هذا في كثير من الأحيان إلى أكثر من كبسة زر.
لا شك أن هناك نسبة لا يستهان بها في عالمنا العربي تمارس القراءة بشكل دوري ومستمر، ولكننا لو بحثنا في نوعية الكتب التي تلقى رواجاً لوجدنا أنها في أغلبها لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تبشّر بقفزة نوعية في المعرفة في عالمنا العربي، علينا أن ننتقل من مرحلة القراءة من أجل المتعة والتسلية إلى القراءة من أجل المعرفة، أو ما يطلق عليه مصطلح « القراءة الذكية «، نحن نتحدث عن القراءة التي تثير في القارىء الرغبة في البحث، وتدفع به نحو توليد الأفكار الإيجابية ونشرها في دوائره المحيطة، بحيث تصبح القراءة حواراً بين القارىء والكاتب من جهة، وبين القارىء وعالمه المحيط به من جهة أخرى.
حقيقةً، لا أتفق مع الكثير من الإحصائيات التي تصدر تباعاً والتي توضح الفجوة الهائلة في القراءة وفي إنتاج الكتب في العالم العربي مقارنةً ببقية دول العالم، وإن كنت أتفق مع القول بأن الإهتمام بالقراءة «الذكية» والمعرفة السليمة يعد ضعيفاً في عالمنا العربي، مقارنة مع الدول الغربية، ومن هنا علينا أن نعترف أن هناك إرتباطاً وثيقاً بين الإهتمام بالقراءة من جهة وحالة الرضى عن الأوضاع المعيشية والسياسية التي تعيشها البلاد من جهة أخرى، بمعنى أن إزدهار الحريات العامة وارتفاع قيمة الفرد في المجتمعات يؤثر بشكل كبير على إرتفاع معدلات القراءة والكتابة على حد سواء، وهذا ما يوضح إرتفاع معدلات القراءة وانتشار المدونات الإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي في عالمنا العربي بعد انطلاق شرارة الربيع العربي.
تُعدّ فكرة المكتبة المنزلية واحدة من أهم المبادرات الهادفة إلى نشر ثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربية، وبالأخص لدى أطفالنا، فعندما ينمو الفرد في بيئة تعتبر الكتاب جزءاً أساسياً من مكونات البيت سيكون من السهل عليه الإرتباط بعادة القراءة وحب المعرفة ونقل هذه العادة الحميدة لأصدقائه ولأبنائه من بعده.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل لماذا لا نهتم بإقتناء الكتب بقدر إهتمأمنا بإقتناء الملابس واكسسوارات المنزل ومظاهر الترفيه الأخرى من ألعاب الكترونية ومقتنيات شخصية ؟! لماذا نشعر بأن اقتناء الكتب لا يعتبر بنداً أساسياً من ضرورات العائلة. حبذا لو بدأنا بتنفيذ مبادرة مكتبة منزلية لكل عائلة، وقمنا بتخصيص ميزانية لرفدها بالجديد من الكتب، حتى لو كانت هذـه الميـزانية مـتواضعة لا تكـفي لـشراء أكـثر من كـتاب واحـد في الشـهر، ولكـنها سـتكون كـفيلة بأن تؤسّس لمشروع قراءة واعد في عالمنا العربي.
يقول الأديب المعروف عباس محمود العقاد واصفاً شغفه بالقراءة ( إن حياة واحدة لا تكفيني ! )، وأنا بدوري أعاين رفوف مكتبتي المنزلية المتواضعة، وأستعرض ما فيها من كتب « جذّابة» كل مساء، وأتساءل تُرى هل تكفي الأيام المقبلة لسبر أغوار صفحات هذه الكتب، ثم أعود وأقول ليس هذا هو المهم، طالما أني أمتلك هذه الرغبة النهمة في التهام صفحات هذه الكتب فأنا حيٌّ !
أيمن أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن