
#الفيل_الأبيض في جامعاتنا ١_٢
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد تركي بني سلامة
قبل أن نخوض في تفاصيل #الفيلة_الأكاديمية التي تملأ جامعاتنا، يجدر بنا أن نعود قليلًا إلى الأصل التاريخي لمفهوم “الفيل الأبيض”، ذلك الرمز الغريب الذي وُلد في أساطير جنوب شرق آسيا، قبل أن يتحول في زمننا إلى مصطلح ساخر يُستخدم لوصف كل مشروعٍ ضخمٍ لا فائدة منه.
في ممالك تايلند وبورما وكمبوديا، كان الفيل الأبيض كائنًا مقدسًا يُنظر إليه بوصفه علامة رضا الآلهة وشرعية الملك. امتلاكه كان شرفًا لا يُضاهى، لكنه في الوقت ذاته عبء ثقيل لا يُحتمل.
فالفيل الأبيض لا يُستخدم في الحرب ولا في العمل، لأنه رمز مقدّس لا يجوز المساس به، ومع ذلك يتطلب عناية استثنائية وطعامًا فخمًا وخدمًا خاصين ومصاريف يومية باهظة.
ولأن بعض الملوك كانوا أكثر دهاءً من خصومهم، فقد لجؤوا إلى حيلة بارعة لمعاقبة من أرادوا إذلاله من النبلاء أو المعارضين:
يهدي له الملك فيلًا أبيضًا، فيبدو الأمر تكريمًا في العلن، لكنه في الحقيقة لعنة ملكية تُنهك صاحبها حتى الإفلاس.
وهكذا تحوّل “الفيل الأبيض” إلى رمزٍ للمجد الذي يتحول إلى عبء، وللهدية التي تُخفي نقمة، وللوجاهة التي تُفلس صاحبها.
حين وصلت هذه الحكايات إلى أوروبا في القرن التاسع عشر عبر الرحّالة والكتاب، تبنّى المفكرون الغربيون المصطلح ليعبّروا عن #المشاريع_الكبرى #عديمة_الجدوى.
ومنذ ذلك الوقت، صار “الفيل الأبيض” مصطلحًا اقتصاديًا وسياسيًا يُطلق على كل مشروعٍ تُنفق عليه المليارات دون عائد، من مطارات خاوية إلى ملاعب أولمبية مهجورة وسدودٍ تُبنى للاستعراض لا للإنتاج.
أما في عالمنا العربي، فقد وجد “الفيل الأبيض” موطنًا خصبًا جديدًا في مؤسساتنا العامة، ثم حطّ رحاله — بكل أناقته وعجزه — في الجامعات.
فهنا، بين الجدران الأكاديمية التي يُفترض أن تكون منارات للعلم والفكر، تكاثرت الفيلة البيضاء على شكل مراكز دراسات وكراسٍ علمية ومشاريع “بحثية” فخمة، تُستهلك فيها الموارد وتُلتقط الصور، بينما الفكرة تموت قبل أن تُولد، والجامعة تنحدر بينما توهم نفسها أنها تصعد.
ومن هنا تبدأ الحكاية المؤلمة: كيف تحوّلت جامعاتنا إلى حظائر لفيلة بيضاء أنيقة، تُنفق كثيرًا ولا تُنتج شيئًا، وتستهلك أكثر مما تُضيف؟
كيف أصبحت اليافطات أهم من الأفكار، والافتتاحات أكثر من الإنجازات، والمظاهر أثقل من المضامين؟
إنها الحكاية التي نحياها كل يوم… حكاية “الفيل الأبيض في جامعاتنا”.
ترقّبوا في الجزء القادم كيف تحوّلت هذه الفيلة الأكاديمية من رموزٍ للعلم إلى وحوشٍ تلتهم المال وتلد الصمت…
