سواليف
يقع مرضى الفشل الكلوي ضحايا “حلقة مفرغة” من اتهامات تتقاذف أطراف معادلة غسيل الكلى المسؤولية عن “تردي” بعض المسلتزمات الطبية المستخدمة في عملية فلترة الدم من السموم وتنقيتها عبر الأجهزة الاصطناعية، فيما يشكو مرضى من حساسية قد تفتك بأجسامهم وتودي بحياتهم، جراء رداءة نوعية فلاتر الترشيح أثناء عملية “الغسيل”.
وبينما يجهل بعض المرضى الأسباب، ما تزال جهات نقابية ورسمية تتبادل الاتهامات، مع متضررين يترقبون إيجاد “حل جذري لهذه المشكلة التي تواجههم منذ أكثر من أربعة أعوام”.
ولحين التوصل إلى آلية تخرج المرضى من هذه “الحلقة المفرغة”، يظل هؤلاء يكابدون “الأمرين” للتخلص من سموم متراكمة في أجسامهم، تدخلهم عنوة في غيبوبة عن العالم الخارجي، وهم تحت وطأة أجهزة ملتصقة بهم لمدة 12 ساعة أسبوعيا، خلال هذه الفترة الزمنية، يمرر الدم من جسم المريض بخروجه من شريان يوصل بالمرشح (الفلتر) ويعود إلى المريض في وريد بعد تنقيته مثبت على جهاز الكلية الاصطناعية في وحدات تضم حوالي 5100 مريض فشل كلوي موزعين على أغلب مستشفيات المملكة.
“الغد” قامت بجولات ميدانية لثماني وحدات غسيل كلى اصطناعية في مستشفيات حكومية وخاصة، ووثقت معاناة مرضى، يقضون حوالي 720 ساعة سنويا موزعة على 3 أيام أسبوعيا.
إعادة استخدام فلاتر “غير آمنة”
يقضي هؤلاء المرضى تقريبا “نصف حياتهم اليومية” في تلك المستشفيات منذ أن منحتهم وزارة الصحة تأمينا صحيا مجانيا، وثقتها اتفاقية رسمية مبرمة العام 2008 مع مستشفيات خاصة مستأجرة لصالح وزارة الصحة، بينما يذهب آخرون لـ”غسل أجسامهم” عبر أجهزة مستشفيات خاصة تستورد مستلزماتها الطبية ضمن عطاءات خاصة لصالحهم بعيدا عن العطاءات الحكومية.
المسألة لا تتوقف هنا، بحسب ما وثقته معدة التحقيق، حيث أن كلا الجهتين من المستشفيات الخاصة والعامة تستخدمان عدة أنواع من الفلاتر “تجميع وطني أو منشأ صيني وألماني وياباني وأميركي، جميعها قد يسبب الحساسية وخفقان القلب وغيبوبة وهبوطا بالضغط وحكة شديدة لعدد من المرضى بشكل متفاوت”.
غير أن الفلاتر الأقل سعرا تسبب أعراضا جانبية تفوق الفلاتر الأعلى سعرا لاختلاف جودة المواد المصنعة، بحسب مرضى.
ووسط ذلك، كشفت مصادر رسمية في المؤسسة العامة للغذاء والدواء عن أن “بعض المستشفيات تلجأ إلى إعادة استخدام الفلاتر للمرضى ويتم تعقيمها بمواد كيميائية منها (اوكسيد الايثيلين)، تُعتبر المسبب الرئيس في المشاكل الصحية للمرضى”.
واستبعدت المصادر نفسها، التي طلبت عدم نشر اسمها لـ”الغد”، أن يكون التعقيم الحراري أو الاشعاعي المستخدم في الفلاتر المستوردة يتسبب في حساسية تصيب مرضى، وإن ظهرت تكون الأعراض الجانبية طفيفة، لكن هذه التصريحات الرسمية، جوبهت بالرفض “قلبا وقالبا” من قبل نقيب تجار المواد الطبية الدكتور جهاد المعاني الذي قال “مستحيل، مستحيل علميا وعمليا إعادة استخدام الفلاتر للمرضى في الأردن”، مضيفا أن مثل هذه الطريقة “تغلق أي مستشفى مباشرة ان ضبطت”.
غير أن المصادر ذاتها، ألقت بالمسؤولية الرقابية على دائرة ضبط الجودة والعدوى في كل مستشفى، مبينة أن “دورها يقتصر على فحوصات مأمونية الفلاتر وجودتها من خلال التقاط عينات عشوائية من كل شحنة مستوردة من الخارج”.
ويستهلك الأردن حوالي مليون فلتر سنويا، تستوردها أربع شركات كبرى، كل شركة تستورد لحسابها الخاص ما بين 300 و450 ألف فلتر، في حين يصل الانتاج المحلي (صناعة إعادة تغليف) حوالي 60 ألف فلتر، حسب معلومات راشحة من “الغذاء والدواء”.
ووسط تحمل المرضى وتعنت إدارات اغلب المستشفيات التي تنفق الحكومة عليها لهذه الغاية من ميزانيتها 34 مليون دينار سنويا، يتوقع المرضى حدوث أزمة “تهدد الأمن الصحي” في حال استمرار كل جهة تقديم دفوعاتها الرسمية ما يبعدها عن خطوط المسؤولية.
تقاذف المسؤوليات يكشف الخلل بالخدمات
“كل يرمي بالمسؤولية على الآخر، ونحن ضحايا المستوردين والموردين للقطاع الخاص وعطاءات حكومية لا تشتري سوى الأقل سعرا”، بهذه العبارات لخص مرضى متضررون معاناتهم المستمرة منذ أعوام.
ورغم تقدم مرضى بشكاوى رسمية لصندوق الكلى، التابع لإدارة التأمين الصحي في وزارة الصحة، إلا أن “مصير شكاواهم في أدراج المسؤولين” حسب قول هؤلاء المرضى الذين يعتبرون أن “شراء تلك الجهات فلاتر رخيصة الثمن وبجودة منخفضة لتخفيض الكلف المالية هي على حساب صحتهم”.
وفيما يؤكد هؤلاء أن بعض الفلاتر الطبية حتى الاجنبية منها قد تدخل المريض إلى “بوابة الموت”، يقول اختصاصي الأمراض الباطنية وأمراض زراعة الكلى في مستشفى حمزة الحكومي الدكتور خالد زايد إن “لجنة رسمية حققت في شكوى عدد من مرضى اصيبت اجسامهم بحساسية من أنواع معينة من الفلاتر وتبين انها حالات محدودة ولم تشكل ظاهرة بين المرضى”.
وأوضح زايد، وهو عضو في اللجنة التي حققت بشكوى المرضى، أن العطاءات الحكومية “تورد انواعا مختلفة لفلاتر الجهاز الاصطناعي، بهدف توفير بدائل تناسب أجسام مرضى الفشل الكلوي وبمجرد ابلاغ الطبيب المعالج يفترض استبدالها فورا”.
ويقدر عدد مرضى الفشل الكلوى الذين يصابون بالحساسية حوالي 300 مريض يشكلون 3 % من المجموع الكلي لمرضى الفشل الكلوي، وسط توقعات طبية بزيادة الإصابات كل عام بحوالي 350 حالة جديدة تعاني من قصور في عمل الكلية ووظائفها، ما يؤدي إلى اختلال عام في جسم الإنســان.
وتتعاقد وزارة الصحة مع 38 مستشفى في القطاع الخاص توفر خدمة غسيل الكلى عبر الاجهزة الاصطناعية، وفق زايد الذي أشار إلى “أن صحة المريض أهم من منافسات بين شركات فلاتر الكلى”.
وتشير وزارة الصحة إلى أن 42 % من مرضى الفشل الكلوي لديهم اعفاء من صندوق مرضى الكلى و32 % لديهم تأمين صحي مدني، و23 % لديهم تأمين صحي عسكري، والباقي 3 % لديهم تأمين صحي جامعي أو قطاع خاص.
وذهب رئيس الجمعية الأردنية لأمراض وزراعة الكلى الدكتور محمد غنيمات إلى أن بعض الفلاتر المستوردة رخيصة الثمن “تسبب حساسية عالية لمرضى الفشل الكلوي بسبب وجود مواد كيميائية منها بولي سلفون في ظل عدم وجود فحص للحساسية في مؤسسة الغذاء والدواء الأردنية أو في الجهات الرقابية الصحية العالمية”، موضحا أن الحساسية “لا تظهر في الفحص المخبري قبل اعتماده من الجهات الصحية إلا بعد تركيبه على جسم المريض الذي يتحمل مسؤولية التبليغ المباشر عن أي أعراض جانبية حتى لا تتعرض حياتهم للخطر”.
هذه الفلاتر، رخيصة الثمن التي لا يتجاوز سعرها 3 دنانير، “قد تتسبب بخفقان بالقلب، ارهاق شديد، ضيق بالتنفس، وحكة شديدة في جسم المريض، ولن يتمكن المريض التخلص من تراكم السموم في دمه”، وفق غنيمات الذي أشار إلى أن “بعض المستشفيات تشتري فلاتر بنوعية عالية الجودة يتراوح سعرها ما بين 10-13 دينارا”.
“آخر اهتمام الحكومة بمرضى الفشل الكلوي. منذ أعوام وحتى الآن نجهل أسباب أصابتنا بأعراض جانبية قاتلة”، يقول المريض الخمسيني أبو مراد، الذي تقدم بشكوى رسمية لإدارة صندوق التأمين الصحي، التي بدورها أرسلت لجنة تحقيق رسمية توصلت إلى “أن الإصابات حالات فردية وأغلقت الملف لأسباب لا نعلمها”.
تغيير الفلاتر مسؤولية الطبيب المعالج
رئيس جمعية المستشفيات الخاصة الدكتور فوزي الحموري علق على ذلك، بقوله إن “أغلب المستشفيات الخاصة لا تستخدم فلاتر صينية المنشأ، كما تعمل وزارة الصحة في عطاءاتها الحكومية وتوردها لعدد من المستشفيات المتعاقدة معها. إذ نستورد فلاتر ألمانية ويابانية بجودة عالية وسعر مرتفع”.
إلا أن “عملية تغيير الفلتر ليست من مسؤولية إدارة المستشفى بل يتحملها بالكامل الطبيب المشرف، ومريض الفشل الكلوي الذي يجب أن يبلغ إدارة المستشفى مباشرة ليصار إلى تبديل الفلتر”، هذا ما توافق عليه الحموري والمعاني.
إلا أن المرضى يؤكدون انهم يبلغون الطبيب المعالج والذي بدوره يكتب تقريرا موثقا في الملف الطبي ويرسل نسخة اخرى إلى المسؤول الإداري في المستشفى الخاص او العام ويتابع معهم للاستعجال في استبدال الفلتر، إلا أن ردهم غالبا ما يكون “سنعمل على توفيره، أو لحين طرح عطاء جديد”.
ووسط هذه الاتهامات المتبادلة بين أطراف معادلة غسيل الكلى، يذهب البعض إلى شراء الفلتر من الصيدليات الخاصة على نفقته الخاصة حفاظا على حياته، كما يتضامن بعض الأطباء مع مرضاهم بتوفيره لهم لحين توفره إدارة المستشفى المتعاقدة مع وزارة الصحة.
ويوضح المعاني أن “جميع الفلاتر يتم فحصها واعتمادها من قبل المؤسسة العامة للغذاء والدواء قبل توريدها إلى المستشفيات”، مؤكدا أن “الفلاتر المستوردة من مختلف البلدان المنتجة ذات جودة عالية ومتوفرة باستمرار وذلك من خلال توفير مخزون استراتيجي للفلاتر لمدة 3 أشهر حتى لا يتضرر المرضى”.
وبالنسبة لملاحظات المرضى الذين يتحسسون من أنواع فلاتر معينة، أكد المعاني “أن الأردن يستورد من أعوام فلاتر من شركة عالمية، تصنع ما يقارب 700 مليون فلتر سنويا، ولم يتلق أي ملاحظة عن جودتها”.
ويرفض غنيمات من جهته ما يشاع عن أن “بعض وحدات غسيل الكلى تعيد استخدام الفلاتر للمرضى، إذ يتم اتلافها مباشرة مع الأنابييب المركبة بالجهاز وجسم المريض”.
الخمسيني خالد، اسم مستعار، يؤكد أن المريض هو “الحلقة الأضعف بين كل هذه الجهات التي تلهث وراء شراء فلاتر بنوعية رديئة لخفض الكلف المالية” قائلا “لا يتصور أحد مدى الألم الجسدي والنفسي الذي نواجهه في حال انقطاع الفلاتر بين فترة واخرى”.
“نصف حياتي اقضيها بالمستشفى إلا انني اثناء وبعد كل جلسة كلى اتذوق طعم الموت”، تصف الاربعينية عبير، اسم مستعار أيضا معاناتها مع الفشل الكلوي منذ اصابتها به قبل 10 أعوام.
يصاب جسم عبير بحساسية شديدة من فلاتر كلى مستوردة بين فترة واخرى، مؤكدة انها “تبلغ إدارة المستشفى التي ترفض تغيير الفلتر بسرعة بعد إصابتها بتشنجات وخفقان بالقلب لحين انتظار اوامر طبيبها المعالج”، منتقدة اساليب تعامل بعض ادارات المستشفيات الخاصة وممرضيها مع مرضى الفشل الكلوي وتصف ذلك بـ “اللاانساني”.
عبير وهي ربة منزل اقعدها مرضها عن العمل وأم لطفلين، تنقلت بين عدة مستشفيات خاصة وأخرى تابعة لوزارة الصحة بحثا عن خدمات علاجية ومخبرية جيدة كي لا تنتقل إليها أمراض اخرى بسبب جلسة غسيل “غير معقمة بشكل آمن”، على ما أضافت.
ومع ذلك فقد أصيبت والدة عبير بالفشل الكلوي قبل عامين، وحتى الآن لم يتحسس جسمها من أي نوعية فلاتر لكن معاناتها في “ضبط عملية الغسيل والأمراض المزمنة المصابة بها وصرف أدوية لها بحذر”.
نرفض تخفيض أسعار جلسة الكلى
وفي السياق ذاته، قال الحموري “لن نخفض أسعار جلسات غسيل الفشل الكلوي حتى لا تكون على حساب جودة المستلزمات الطبية”، مضيفا “تم إبلاغ وزير الصحة سعد جابر أن المستشفيات الخاصة ستعتذر عن تقديم خدمة الغسيل الاصطناعي لمرضى الفشل الكلوي في حال الإصرار على تخفيض الكلف المالية”.
وكانت وزارة الصحة أعلنت “ان توحيد كلفة جلسة غسيل الكلى بالمستشفيات وتخفيضها إلى ما بين 45 و72 دينارا، قوبل بالرفض الشديد من قبل المستشفيات”، وتمسكت المستشفيات الخاصة بالاتفاقية المبرمة بينها وبين وزارة الصحة – إدارة التأمين الصحي.
وتنص المادة 4 بند(هـ) من الاتفاقية على “يتحمل الصندوق نفقات معالجة مرضى الفشل الكلوي من المشتركين ومنتفعيهم بسعر (72 دينارا) اثنين وسبعين دينارا للجلسة الواحدة مضافا اليها قيمة الدواء والفحوصات المخبرية الاستثنائية.
والمح مصدر رسمي في إدارة التأمين الصحي إلى أن هيئة النزاهة ومكافحة الفساد “ما تزال تحقق بقضية عطاء توريد فلاتر منتهية الصلاحية إلى الأردن، بانتظار نتائج التحقيق، لكنها لم تضبط أي مخالفات لها علاقة بإعادة تدوير الفلاتر التي يتوجب اتلافها بعد كل استعمال مباشرة”.
وأضاف المصدر “هناك لجان تفتيش على الوحدات الاصطناعية بشكل فجائي على مدار 24 ساعة”، مؤكدا “وجود مخالفات عديدة تتعلق بالنظافة وتردي نوعية الطعام المقدم لهم وعدم انتظام بعض الاطباء بمتابعة مرضاهم”.
ووثقت “الغد” بدورها القضية التي تم تحويلها من قبل مدعي عام هيئة مكافحة الفساد العام الماضي والتي تشير إلى أنه “على اثر توريد بضاعة من المشتكية لجنة وزارة الصحة وبعد استلام الدفعة الثانية تم الاعتراض على أنها ليست صناعة وطنية”.
وأشارت أوراق القضية إلى “أن هناك تقريرا على الموقع الإلكتروني لمؤسسة الغذاء والدواء الأميركية (F.D.A) يفيد بأن فلاتر غسيل الكلى هي بضائع مرفوضة ومنتهية الصلاحية وفيها مشاكل فنية وتم شحنها إلى الأردن وتغيير ورقة معلومات المنتج وتوريدها لوزارة الصحة وعلى اثر ذلك تم ايقاف هذه الدفعة”.