
#الفساد يعود بوجه رسمي: من #قفص_الاتهام إلى #كرسي_المنصب
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
لم يكن الأردنيون بحاجة إلى المزيد من الخيبات، لكنهم تلقوا واحدة من أثقل الصفعات مؤخرًا مع تعيين مسؤول سبق أن أُدين بجرم استثمار الوظيفة العامة في موقع جديد. وكأن الدولة تصر على اختبار صبر الناس وتحدي ذاكرتهم. لم يكن الأمر مجرد قرار إداري عابر، بل رسالة صادمة مفادها أن من تلطخت يده بالفساد يمكن أن يُعاد تدويره وتلميعه وتقديمه من جديد على أنه رجل دولة، بينما تُغلق الأبواب في وجه شباب مؤهلين لم يجدوا سوى البطالة والفقر نصيبًا لهم.
حكومة الدكتور جعفر حسان التي بدأت بداية بدت مبشرة ومستندة إلى الرؤية الملكية في الإصلاح السياسي والتحديث الاقتصادي، وقفت منذ اللحظة الأولى على مفترق طرق. كان بإمكانها أن تثبت جديتها وتفتح صفحة جديدة مع الشعب، لكنها اختارت أقصر الطرق نحو فقدان الثقة. هذا القرار كان أول مسمار يُدقّ في نعشها، إذ انكشفت بسرعة حدود ولايتها العامة وقدرتها على احترام الرأي العام. الإصلاح لا يُقاس بالخطابات ولا بالزيارات الميدانية المصورة، بل بالمواقف الحقيقية التي تضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار.
ما يحدث لم يعد مجرد أخطاء فردية، بل تحول إلى مسرح عبث كبير، مسرحية سيئة الإخراج يُطلب من الشعب أن يكون فيها متفرجًا صامتًا. في هذا المسرح، من يُدان يُرقّى، ومن يهمل يُكرم، ومن يستهتر بالشعب يُكافأ بمنصب جديد. أما الشعب؟ فدوره الوحيد هو التصفيق والهتاف: “عاش المسرح!”. أي عبث أكبر من ذلك؟ وكيف يمكن للناس أن يصدقوا شعارات مكافحة الفساد ودولة القانون وهم يشاهدون الفاسدين يتزينون بالمناصب وكأنها أوسمة شرف؟
لو كان المسؤول المعني يملك الحد الأدنى من الاحترام لذاته أو للشعب الأردني، لكان قد تقدم باستقالته خلال أيام قليلة من تعيينه. فالاستقالة في مثل هذه الحالات ليست بطولة، بل أبسط أشكال الاعتذار للشعب. لكن يبدو أن كلمة “استقالة” قد انقرضت من قاموسنا السياسي، تمامًا كما انقرض الحياء من صدور بعض المسؤولين. في بيئتنا السياسية، المنصب ليس مسؤولية وطنية بل غنيمة شخصية، يُمسك به صاحبه ولو على جثة الثقة العامة.
المشكلة لا تتوقف عند تعيين فرد، بل تكمن في العقلية التي تدير البلاد. الأقلية التي تحتكر النفوذ والسلطة والثروة تبدو في وادٍ والشعب في وادٍ آخر. هذه الفئة تتعامل مع المجتمع باعتباره مجرد تفصيل صغير، أو “ضجيج” مؤقت سرعان ما يهدأ. لكن الحقيقة أن كل قرار صادم يضيف جرحًا جديدًا، وكل جرح يوسع الفجوة بين الدولة ومواطنيها. وما يُهدر اليوم من رصيد الثقة لن يعوّضه أي خطاب رنان ولا أي صورة إعلامية.
الشعب الأردني ليس بلا ذاكرة، وليس بلا كرامة. قد يسكت مضطرًا أمام ضغوط الحياة، لكنه يسجل كل شيء. وحين يُطلب من الناس أن يصدقوا أن الدولة جادة في محاربة الفساد بينما يشاهدون الفاسدين يتنقلون بين المناصب، فإن النتيجة الحتمية هي مزيد من فقدان الثقة. وهذا هو أخطر ما يمكن أن تواجهه أي دولة: أن يخسر الناس إيمانهم بجدوى الإصلاح وبمعنى العدالة. التاريخ لا يرحم، والذاكرة الشعبية لا تُمحى، وما يُغسل بماء القانون الملوث لن يصبح يومًا نظيفًا. ومن يصر على إهانة الشعب لا بد أن يدفع الثمن يومًا، فالمسرح بلا جمهور لن يبقى مسرحًا، والعبث مهما طال لا بد أن ينتهي.