العولمة ..أم العالمية / د. هاشم غرايبه

العولمة ..أم العالمية

ظهر مصطلح العولمة تاليا لتأسيس منظمة التجارة العالمية (OMC)، واتفاقية (GATT)، المتعلقة بإلغاء الحواجز الجمركية بين الدول، وعلى الرغم من التهيئة الإعلامية الهائلة، فقد ساد التوجس والريبة لدى دول العالم الثالث، خاصة في ظل عدم قدرة المنتجات الوطنية فيها على منافسة تلك العالمية ذات الشهرة والجودة والقدرة على الصمود في وجه المضاربات والمقاطعة.
لكن الأمر في الإنضمام الى المسار العولمي أو مقاطعته لم يكن اختياريا، فالقرارات في هذه الدول لا يتخذها الخبراء والمختصون، بل الزعماء الذين ارتضاهم الغرب، لذا يمتثلون.
لذلك لم يجد المهتمون بمصلحة أوطانهم غير محاولة التقليل من مضار العولمة، وبالأخص في مضمار الحفاظ على الهوية الثقافية من التحلل والإضمحلال، غير أنهم وجدوا أنها ليست شرا كلها، بل فيها بعض الإيجابيات التي يمكن استثمارها، مثل التواصل الثقافي مع العالم بسهولة من خلال الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ووسائل التواصل الإجتماعي، والتي باتت متاحة للجميع وفي كل مكان وبكلفة زهيدة.
لقد أرادت الشركات العملاقة من خلال إتاحة الشبكة مجانا تسهيل التعريف بمنتجاتها لتسويقها، كما قصدت من إغراء كل فرد بالحصول على هاتف خليوي، التنصت على دخائل البشر لمعرفة رغباتهم وما يحتاجونه من أجل تصنيعه وضمان توفر الطلب عليه.
لو أخذنا بالمصلحة الشرعية، لوجدنا أن الإسلام يعتبر الناس جميعا إخوانا، ولا يرضى بالحواجز بين البشر لاعتبارات قومية أو عرقية أو جغرفية: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى”، بل يعتبر الهدف الأسمى لكل الأقوام والشعوب التعارف، أي إقامة العلاقات الودية القائمة على تبادل الخبرات والمعارف لتحقيق مصالحهم المشتركة: ” وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.
فهل يعني ذلك أن الإسلام دعا الى العولمة؟.
قطعا لا، فما يدعو له الإسلام التعاون على مبدأ المساواة، وليس هيمنة القوي على الضعيف، كما يقوم على مبدأ أن للفقير حقا في مال الغني، على نقيض مبدأ (الليبرالية) القائل أن للغني حق في مال الفقير ويجب إتاحة الحرية للغني لتحصيله.
لذا ومن أجل تمييز المبدأ الإسلامي عن العولمة، لنطلق عليه مسمى العالمية.
قد يعتقد البعض أن في الأمر ابتداعاً، لكن لو تأملوا جيدا لوجدوا ذلك في صلب مبادئ الإسلام وقيمه الأساسية، فنحن نقول: “رب العالمين” فيما لا نعرف إلا عالما واحدا، كما نجد في قوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” دعوة الى إيصال الرسالة لكل الناس.
إذا فالإسلام ينتهج العالمية، لكن من مبادئ تعميم الخير والنفع للبشر كافة، وهي نقيض أهداف العولمة التي تسعى لسيطرة أصحاب الرساميل الضخمة ومالكي الإحتكارات الصناعية التجارية الضخمة(الكارتيلات العابرة للقارات).
من خلال جعل العالم قرية واحدة، وبالتالي سوقا مفتوحة، فالعولمة تسعى لإغراقها بمنتجات مصانع الأغنياء، وجعلها في متناول أيدي الفقراء..ليس مساعدة إنسانية بل مستهلكين يدفعون ثمنها من أموالهم الناضبة.
والإسلام يمنع وضع العراقيل والموانع أمام حرية وصول البضائع الى الجميع ومن قبل الجميع وعلى السواء، فهو ألغى المكوس (الجمارك والرسوم التوقيفية): “لا يدخل صاحب مكس الجنة ” .
لكن حلول الإسلام العملية الإقتصادية تجعل من العالمية الإقتصادية خيرا عميما، أي يعم الجميع وليس منفعة خاصة للأغنياء دون الفقراء، فعندما يمنع الربا ويُحِل التجارة، فهو بذلك يعيد العلاقات البشرية الى الفطرة، فالمقايضة أساس التعاملات العادلة، وبمنع تقاضي الفائدة يمنع الإتجار بالمال (أداة الإقتصاد)، بل المتاجرة بالسلع، والفرق كبير بين المتاجرة بالأداة والسلعة، فالأداة رمزية بينما السلعة مادة استهلاكية نافعة، وتخزينها الطويل يتلفها أو يفقدها قيمتها، لذلك فتداولها سريع وتستعمل بذاتها، فينتفع بها من يحتاجها، وبذلك يحقق الإسلام مبدأه بأن المال أداة للنفع العام، لذلك قال تعالى “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” ولم يقل بعضكم أموال بعض ، لأن المال للناس ولنفعهم جميعا..وتلك هي العالمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى