درجات الموت…

#درجات_الموت…

#جمال_الدويري
كلما بلغت حواسّنا صور الموت والدمار والأشلاء والجوع والعطش واليتم والثكل والاندحار الانساني والقهر الغزيّ، كلما اعتقدنا ان هذه المشاهد قد تكون قمة الوجع ورأس الحزن ومبعثه الأكبر الذي بلغ منتهاه، كلما بلغتنا صورا أخرى وتوثيقا آخر وعويلا ومعاناة تثقب القلوب وتقطّع أنياطها وتبقر الضمائر بصورة أكبر وأعمق وأكثر حدّة وسطوة.
وكلما اعتقدنا ان الأشلاء الآدمية لأطفال تُجمع في أكياس البلاستيك المكلومة قد قالت حكايتها، وسربت أسرار أصحابها، كلما أدركنا أن للموت درجات تعددت ألوانها وأشكالها، متباينة متصاعدة، أخفّها هي تلك التي تظهر بصورة جثامين صغيرة تقاس بالفتر والشبر لرضّع سلكت أكفانها البيض، وأدركتها عقدتا الموت، ولم تحفل حتى بأسماء أصحابها مكتوبة بخط الحبر اليدوي، لأنها مجهولة الهوية لم يتعرف عليها أحد، ولم تلوب عليها أم أو أب أو قريب، ولأنها قد تكون آخر نسل عوائلها،
ومن أصعبها ربما، صورة طفلة مشحبرة بلا معالم، ترتجف استعدادا للموت وتصرح للكون الغاشم: انا سقعانه، بدي أمي، بدي أبويا، وما من مجيب.
نعم…انها بردية الموت وتدرجه في الأعضاء، وتسرب الأرواح الصغيرة التي لم تعد تستطيع العتب واللوم والاستعطاف، قد اتخذت قرارها بالمغادرة الى رحمة رب البشر سبحانه، بعد أن يئست من رحمة البشر وأدنى اهتمامهم.
نعم…إن للموت درجات، ولانسكاب الأرواح أشكالا لا نكاد تصورها أو إدراكها، ولكن الأرواح المتعبة الذبلى التي تقف على أعتاب الأجساد المستسلمة، تدرك تماما أيا من درجات الموت تعاني، وأي شكل منه قد وصلت، وأي خط للنهاية في السباق إليه قد بات في رجفتها الأخيرة الى الآخرة.
وهل تدرك البشرية المترفة، شكل الموت الذي يسكن طفلة على حمالة المسعفين تسأل حامليها: عمّوه انت ماخذني عالمقبرة؟
هل يدرك العالم الغاشم، الفرق بين حمّالة الاسعاف وحمّالة الموت التي لم تدركه هذه الطفلة التي أرهبها الموت الى درجة لم تعد تفرّق بين الموت والحياة؟
لن أسترسل، ولن أزيد، لأنني لم أعد أدرك الفرق بين موت الجسد وموت الضمير، ولأن الحرف لم يعد يطاوعني للمزيد من الكذب والنفاق والسفسطة وموت الانسانية، ولأن ما اعتلى قلمي من ندوب ووجع وحسرات مفزعة، قد لجمه عن استحضار درجات أخرى كثيرة من الموت.
يسألنا الغزيون أمام أشلاء أطفالهم: ماذا فعلوا هؤلاء؟
والجواب الفريد الأوحد: لم يفعلوا شيئا، ولكنهم ارتقوا لأننا سقطنا، ولم نفعل لهم شيئا أيضا.
ولكن…كلما أصابنا الاحباط واليأس والقنوط بوهن ورجفة المفؤود، كلما ظهر لنا الملثم يشحذ الهمم ويشدّ على محتضر عزائمنا، ويبث صور مجاهديه وهم يكتبون التاريخ ويحققون المعجزات، وهو يقول: جهاد، نصر او استشهاد،
ربي رحمتك ونصرك.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى