العلم المختطف

العلم المختطف
د. هاشم غرايبه

العلم بالتعريف الأبسط هو محصلة المعارف البشرية المتراكمة المتفق على صحتها.
إذاً فهو يعتمد على استنتاجات تناقلتها أجيال من البشر تميزوا بدقة الملاحظة، والقدرات العقلية المتميزة، التي أدت بهم لاكتشاف أن هنالك دائما علاقات ثابتة بين ظواهر الطبيعية وموجوداتها، ووجدوا أن هنالك مواصفات ثابتة للمواد لا يمكن تعديلها، واستنتجوا أنه وبما أن العناصر جميعها خاضعة لتلك القوانين الصارمة مثل التمدد والتقلص والتوصيل والإحتكاك ..الخ، مع تبدل صورتها بين الحالات الثلاث: الصلابة والسيولة والغازية، لذا توصلوا الى استخلاص أنها تتركب أساسا من مركب واحد أسموه الذرة، واختلاف مكوناتها هو الذي يعطي كل عنصر خصائص مختلفة.
توافق كل العلماء على هذا التصور رغم عدم إمكانية رؤيته، فكان ذلك دليلا أنه ليس بالإمكان رؤية أو إدراك كل الحقائق حسيا، بل يمكن التوصل الى الأمور المغيبة عن البشر بالإستنتاج وبناء على تأثير ذلك الشيء على المحسوسات.
ثبت صحة هذا التصور بدلالة أنه ومع تطور الإمكانيات والتقنيات، إلا أن هذه المعلومة لم تنتقض بل تعززت، وعرفت مكونات الذرة والمدارات، كما أمكن بناء على ذلك للعالم “مندليف” أن يضع الجدول الدوري لعناصر الطبيعة، والذي ترك فيه مكانا فارغا لعناصر لم تكن مكتشفة في وقته، بناء على افتراض صحيح وهو أنه يجب أن يكون هنالك قانون منظم لكل العناصر ، وكل عنصر له خصائص مختلفة بناء على عدد الإلكترونات المدارية، ليؤدي وظيفة محددة، ثم بعد زمن اكتشفها آخرون، وأدرجوها في المكان المخصص لها في الجدول.
هكذا هو العلم، حقائق يصدق بعضها بعضا، وقوانين متناغمة متوافقة فترى مدارات الذرة، تماما مثل الأفلاك الدائرة في الكون، مما يدل على أن كل شيء في الكون مخلوق من قبل القوة المطلقة ذاتها.
إذا فالعلم مخلوق أيضا، لأنه يتعامل مع حقائق الأشياء، ومن خلقه أراد منه ان يكون دليلا معرفا بهذه الحقائق.
لذلك فالعلم الأصيل هو نتاج حقائق مجردة، فيها تتم المطابقة بين جملة من المعارف للوصول الى السر الذي يحكمها، والذي يسمى بلغة البشر: قوانين الطبيعة، لكن المنطق أن تسمى قوانين خالق الطبيعة، مثلما أن السيارة لا تضع لنفسها قوانين تجعل عجلاتها تدور بسرعة لكي تنطلق، أو تتوقف عن الدوران لتقف، بل من يضع لها تلك الأوامر هو صانعها، وكذلك في كل موجودات الطبيعة، فليست الشجرة هي التي تقرر نوع الثمرة، ولا يمكن للدجاجة أن تحدد متى ستبيض، ..وكذلك في كل مفردات الطبيعة، هي تخضع لقوانين تسيرها ولا تضع القوانين لذاتها.
لذلك فأكثر الأفكارسخافة هي القول بأن المخلوق الفلاني طور نفسه.
عندما يكتشف ذوو العقل العلمي توافقا وتناغما في ظاهرة ما، يستدلون أن ثابتا معينا يسمونه قانونا يحكمها، وهذا يعني أنها خاضعة لنظام صارم، لأنه لا يمكن لشيء أن يلتزم بهذا بذلك إلا أن تكون هنالك قوة أقوى ضابطة، تديم هذا الإنضباط، وإلا فالبديل هو التفلت من سيطرة القانون والعشوائية.
فكيف نحكم على العقل الملحد الذي يفترض أن كل ما هو موجود حدث صدفة وعشوائيا ولا ضابط له..كيف نحكم أنه عقل علمي!؟.
وكيف نصدق ادعاء هؤلاء بأن العالِم لا يجوز له أن يؤمن بالغيبيات؟.
إذا احتكم هؤلاء الى أن العلم في جزء منه معارف انتقلت عبر الأجيال بالتعلم، وفي جزئه الآخر بالتجريب الشخصي، فكيف يمكن إنكار جزء منقول والأخذ بجزء آخر؟.
كيف يمكن إقناعنا بأن حكمة مفكري الإغريق صحيحة وأنتجت معرفة صحيحة وأن من نقلوها إلينا صادقون أمينون، بينما حكمة الأنبياء المشهود لهم بالإستقامة والفهم العميق غير صحيحة، وأن ما نقلوه إلينا كاذب وغير صحيح!؟.
إن كانوا يطالبون بدليل على مصداقية الأنبياء، فأين دليلهم على مصداقية الآخرين!؟.
إذاً نتيقن مما سبق أن العقل البشري طوال العصور قد تعرض للخداع من قبل المصابين بلوثة الإلحاد ممن يدّعون أنهم متمكنون من العلم، فيما هم لا يتمتعون بأدنى درجات الموضوعية التي تفترض إخضاع كل الفرضيات للدرجة ذاتها في البحث والتمحيص.
المشكلة ليست في التوصل الى هذا المنطق البدهي الذي لا جدال فيه، لكن المشكلة في الهوى البشري، الذي يطوع الحقائق فيعدل ويبدل في المخرجات لتوافق رأيه المسبق.
هذا هو اختطاف العلم، لتوجيهه عكس ما وجد من أجله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى