العلم الديني والدنيوي / د. هاشم غرايبه

العلم الديني والدنيوي

في مفهوم كل الناس، يُعتبر العالِمُ هو ذلك الشخص الجليل الذي ينحني له الجميع احتراما، كيف لا وهو المتفرغ للبحث والإختراع لتسهيل معيشتهم وجعل حياتهم رغيدة ممتعة.
لذلك ارتبط مفهوم العلم في أذهان العامة بذلك المتعلق بالأمور التطبيقية، فلا يسمون المتخصص في العلوم الدينية عالما بل…رجل دين!، وباعتقادهم أنه وبما أن الدين ليس تجريبيا فلا يطلق على الباحث فيه مسمى العالِم، مع أن جميع العلوم الإنسانية كالفلسفة والإجتماع واللغة والتاريخ، ليس فيها تجريب بل أفكار تتحول الى فرضية بالملاحظة والإستنتاج، وإن ثبت انطباقها على الواقع تغدو نظرية، لكنها تظل جدلية فلا يمكن نفيها أو إثباتها بالقطع مثل القوانين الطبيعية الناظمة للكون.
لا تفسير لتلك الإزدواجية في الحكم إلا بالتحيز المضاد للفكر الديني، فالفضاء الثقافي والإعلامي والسياسي محكوم بأسره من قبل جماعات المناوئين للدين واللادينيين والعلمانيين، وهؤلاء يعتبرون الدين بقيمه الإنسانية الأخلاقية المناوئ الوحيد لأطماعهم الإستحواذية، أو على الأقل غير متوافق مع مصالحهم ومنافعهم.
في حقيقة الأمر، فالعلم الديني لا يختلف من حيث الآليات والوسائل، فهو يعتمد على العقل وأدواته، مثله مثل الفلسفة وباقي العلوم النظرية، لكنه يزيد عنها بعنصر هام وهو أن له مصدرا أساسيا هو النقل عن المصدر الموثوق، يعتبره هؤلاء المعادون نقطة ضعف بينما هو مصدر القوة الأمثل، فكل الحقائق العلمية حتى المتفق عليها تخضع لقانون النسبية، بينما المعرفة التي مصدرها العلم المطلق (الإلهي) تغدو حقيقة مطلقة لا تحتاج الى تجريب ولا إثبات.
العلمانيون مقتنعون بوجود الله وبالدين، لكنهم ضد تطبيق تعاليم الدين (التشريعات)، بل يريدونه مجرد ثقافة فردية اختيارية، وأما اللادينيون فيؤمنون بوجود الخالق لكنهم لا يؤمنون ان الدين من عنده بل من اختراع البشر، أما الملحدون فلا يؤمنون بوجود خالق أصلا، ولكن هؤلاء باتوا قلة قليلة لا قيمة لها.
إذاً فالغالبية الساحقة تؤمن بالله خالقا وبتفرده بالألوهية، وهذا يقتضي الإعتراف بأنه وحده يملك المعرفة المطلقة، ولما كان من المنطقي أن لا يكون الإله منظوراً بذاته وصفاته، فالمخلوق إدراكا وعلما لا يمكن أن يناظر إدراك الخالق وإلا لما كان هنالك من تمايز، ولذلك فالإله هو الذي يصدر المعرفة بطريق الوحي الى فئة مخصوصة من البشر، وبالقدر الذي يحقق غاياته ومراداته من إيجاد هذا المخلوق.
هذا ما يسمية المؤمن العلم المنقول، ويسميه غيره الغيبيات أو (الميتافيزيقيا) ويسميه الملحد خرافات لأن عقله يعجز عن استيعابها وفهمها.
على أن هذه المعرفة المكتسبة بالنقل هي محدودة بالأصول والأسس، وتسمى أصول الدين، ومصدرها ثابت وهو النص القرآني والسنة المؤكدة، وتركت الفروع والتفصيلات والحيثيات والتطبيقات الظرفية للعلماء، يبحثون ويتأملون ويستنتجون.
إن أهمية العلم الديني للبشرية لا تقل عن أهمية العلم الدنيوي، فالشق النقلي منه، يفسر ما لا يمكن للعلم الدنيوي تفسيره مثل علة وجود الإنسان، ومبتدؤه ومنتهاه، ودوره ومبتغاه.
كما يفصل الشق العقلي في منهج ومرادات الشق النقلي (الشريعة) التي تضبط سلوكات وأفعال الإنسان، بما تحقق من سعادة للأفراد وصلاح للمجتمعات، وفوق ذلك كله رضى الخالق عن الملتزمين بحسن التطبيق (التقوى)، والذي يستوجب حسن الجزاء يوم الحساب الختامي، والعقوبة للخارجين على القانون الإلهي.
أما العلم الدنيوي فيعنى بتطوير وسائل المعيشة وتحسين ظروفها، والمحافظة على صحة الأفراد وأمنهم وحقوقهم.
هكذا نتبين ضرورة العلمين معا، ولا يجزيء أحدهما عن الآخر، لذلك فليس القضية مفاضلة بينهما، بل إن الفلاح يكمن في الجمع بينهما، وخير العلماء من حازهما معاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى