العفو العام وسرقة الماء والكهرباء
-بتوجيهات كانت الحكومة ،بعد دراسة مستفيضة ،ولجان متخصصة عديدةٍ،قد أصدرت مشروع قانون للعفو العام ،يشمل المجموعة الكبرى من القضايا،للتخفيف عن المواطنين .واستثنى مجموعة محدودة من القضايا ،مثل تلك التي تمس أمن الدولة،والحقوق الشخصية للمعتدى عليهم،والقضايا ذات الصلة بالفساد،واقتصاد الوطن ،وهدر المال العام.
– قبل أن يُعرض المشروع على مجلس النواب،انبرى السادة النواب لإصدار البيانات لتوسيع بنود العفو،وكثُرت التغريدات والمقالات والتصريحات، بل والتهديدات بأن المشروع لن يمر دون التوسع فيه،وإحداث تغييرات جذرية عليه.
– حُوّل المشروع إلى اللجنة البرلمانية القانونية المختصة التي عملت بجدية وموضوعية ومهنية،فتوسعت في بعض البنود تحت الضغط الهائل من بعض السادة النواب،وبعض المستفيدين من المتنفذين.
وأصدرت اللجنة المشروع المعدَّل الذي راعت فيه النظرة المتوازنة بين الجاني والضحية، وبين الرحمة وسيادة القانون ،وبين التخفيف على المواطنين والحفاظ على هيبة الدولة،واقتصادها،ومالها العام .
-عُرِض المشروع المعدَّل على مجلس النواب ،وبدأ النقاش ، وأظهر بعض السادة النواب إصراراً كبيراً على إضافة المزيد والمزيد من البنود ليشملها العفو، وتحصنوا بأنهم ينفذون إرادة ملكية،وحشدوا في مرافعاتهم أدلة انتقائية من الآيات القرآنية الكريمة،والأحاديث النبوية الشريفة،والمأثورات العرفية التي تحث على الصفح والعفو، وتناسوا ما يقابلها،وقد يكون أضعافها من ضرورة عقاب القَتَلة، والجُناة،والمعتدين، وشهود الزور، وخائني الامانة ، والمفسدين في الأرض،وكلها كبائر في ديننا الحنيف،بل في كل دين.
-وضاعت صرخات بعض السادة النواب الذين حاولوا التذكير بأن توسعة العفو على هذا النحو تخالف الشرع، والعرف ، وأمن الدولة والمجتمع وسيادة القانون،وأن المجتمع الذي يمثله هؤلاء النواب لا يقتصر على الفئة المعتدية ذات الصوت العالي التي يدافعون عنها ،وإنما يشمل الغالبية الصامتة المُعتدى عليها بشكل مباشر وغير مباشر.
لكن النتيجة كانت توسيع العفو،والانحياز إلى المعتدين.
-ويكفي للتدليل على خطورة ما حصل الإشارة إلى العفو عن سارقي المياه والكهرباء:
يعلم السادة النواب وضعنا المائي الخطير،فالمفروض أن هذا الأمر يقلقهم،ويسعون دوماً للتحفيف من حدّة المشكلة،ووضع الحلول لها ، والبحث عن سبل علاجها.
ويعلم السادة النواب أيضاً وضع الطاقة في الوطن،وكيف تتقافز المديونية لأسباب كان من أهمها في فترة من الفترات انقطاع الغاز المصري، وتملأ الفضاء صيحات الجميع بالحث على الحفاظ على قطرة الماء ، والبعد عن أي هدر في الكهرباء .
ويعلم السادة النواب كذلك أن فئة ليست قليلة من الناس،قد استمرأت الاعتداء على خطوط الماء ،وشبكات الكهرباء ،واستقوت، وتمردت ، واستباحت حقوق الدولة ،التي هي حقوق المواطنين ، وتباهت بسرقتها، ومددّت الخطوط لمسافة كيلو مترات، وأكدّت وجود مراكز نفوذ تمرّست على الاعتداء، وتجرأت على الدولة والقانون، وسببت للخزينة خسائر بعشرات الملايين،وعملها هذا يشكل قضايا فساد ضخمة تهز الدولة والمجتمع.
فكيف يتم إعفاء هذه الفئة من عدوانها ،وتنجو سالمة ظافرة بمكاسبها الظالمة ؟
– ولأن المبدأ لا يتجزأ، فإنه يستوي في هذه الحالة السارق الكبير ،والسارق الصغير، فحتى السارق الصغير سيكون له أثرٌ كبير في إفساد المجتمع،إذ هو يتنعم ويستعرض ويستكثر ويُهدر،ويتفاخر بما يفعل ،دون أن يدفع شيئاً. وإن تمت مخالفته أو تغريمه فالعفو قادم،وهو في الأمان بين عفوين ،بينما جيرانه الملتزمون يدفعون فواتيرهم بانتظام،وإن سها أحدهم ،أو تأخر شُهِر عليه سيف القانون،فقُطِع عنه الماء،أو الكهرباء دون رحمة أو انتظار أو قبول أعذار.
– كيف يُعفى هؤلاء من جناياتهم ؟أليس هذا مساساً في الأمن الوطني والمجتمعي؟
وكيف يواجه المدافعون عنهم قوله تعالى:”والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله”. أليس الله الكريم الرحيم هو الذي فرض هذا العقاب يا دُعاة العفو والرحمة؟ ويا كُرماء في إهدار الحقوق الشخصية للمواطنين المستضعفين، وحقوق الدولة ؟
وكيف تتناسون موقف رسولنا_ عليه الصلاة والسلام_ عند طلب شفاعته في حد السرقة،وهو النبي الكريم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، فغضب غضباً شديداً ،وأرسى العدل الإسلاميّ الأبديّ، فأقسم: “لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”؟!
ستقولون :إن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف إقامة حدّ السرقة عام المجاعة.
ونقول لكم :أعيدوا لنا عهد عمر،وهيبة عمر، وعدل عمر، وكونوا أنتم بعُشر عُشر أخلاق عمر،ثم توسعوا في بنود العفو ،وتنازلوا عن حقوق لا تملكونها فهي للمواطنين، وللدولة.
وكان الأولى أن تحموها،وتدافعوا عنها.
أيها السادة النواب،
المفروض أنكم انتم الأمناء على إرساء العدل،وسيادة القانون .
ّوالرحمة التي تنادون بها لا تكون في الانتصار للمعتدين على حساب حقوق الدولة والمواطنين الملتزمين، بل تكون الرحمة في كثير من الأحيان بالحزم والردع ،وتعزيز السلوك الحسن،ومعاقبة السلوك السييء:
فَقَسا ليزدجروا ومَن يكُ حازماً فليقْسُ أحياناً على من يرحم.
لقد نصرتم فئة محدودة معتدية ،لكنكم اعتديتم على الأغلبية الصامتة الملتزمة ،وسرّبتم أموالها المدفوعة المشروعة من فواتير وضرائب إلى جيوب المعتدين الفاسدين المارقين السارقين.
فهل يصلح المجتمع هكذا؟
أيها السادة الأعيان ،
أنتم حكماء الوطن ، والقانون بن أيديكم،فهل تعيدون لنا الأمل بأننا في دولة قانون يُحاسَب فيها المخطيء ويُردع، قبل أن يكثُر المنزلقون نحو الخطأ والهاوية؟!