العدالة المجتمعية / د . هاشم غرايبة

العدالة المجتمعية
لم يكن الإغريق هم أول من بحث في صلاح المجتمعات واقترحوا لذلك حلولا ، بل كانت شعوب الرافدين ، لكن الغربيين يميلون دائما الى إرجاع أصول الحضارة الإنسانية لهم ، لقد ظهر من بينهم فلاسفة مثل ” أبيقار ” الذي يعتقد أنه لقمان الحكيم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم ، ووضعوا قواعد تنظم علاقات الأفراد في المجتمع .
لم تتوقف الى اليوم محاولات البشر لتصور المجتمع العادل ، فما تصوره المعلم الأول ” أرسطو ” والمعلم الثاني ” الفارابي ” في تكوين المدينة الفاضلة ، لم تكن مجرد مثاليات أو أحلام ، بل هي أفكار ممكنة التطبيق ، لكن تحتاج الى ظروف معيارية في اختيار الحكم الذي يطبق تلك المعايير بعدالة .
لما كانت النوازع الأنانية والميل الى الإستئثار هي من طباع النفس البشرية ، فقد كان من الصعب الإعتماد على صلاحية هذه النفس في التحكيم بالخلافات بين أفراد المجتمع حول الحقوق والواجبات ، بل لا بد من تشريع واضح وحازم يتم الإحتكام إليه بدل تحكيم الرأي الشخصي ، بمعنى يجب أن يكون هنالك رأي في كل الأمور التي تحتمل الإختصام ، هو فوق كل الآراء ، وهو أنزه ما يمكن وأبعد ما يمكن عن التحيز والهوى .
لا ينطبق هذا التخصيص إلا على حالة واحدة محددة ، وهي أن يكون صادرا عن الإله الخالق الحكيم العليم بدقائق مصالح البشر وخفايا دوافعهم ، وتفصيل ذلك الأمر مبين في كتاب لا يطاله التحريف ولا التزوير هو القرآن الكريم .
لدواعي الموضوعية سوف نضع المنهجين : الإجتهاد البشري والتشريع الإلهي أمامنا للمقارنة .
آخر ما توصلت له البشرية هي قيم الليبرالية الحديثة ، وهي التي تحكم كل مناحي الحياة الآن وفي جميع المجتمعات بلا استثناء ، وتتلخص بتقديس حرية الفرد ضمن إطار يحدده قانون ، إذن فالحرية هنا مقيدة بضوابط يحددها نظام الحكم الذي يملك السلطة رغم أنه يكتسبها من نظام انتخابي يمتثل لرأي الأغلبية .
وهكذا فمصدر التتشريعات هو هذه الأغلبية التي يتبين بالتحليل الدقيق أنها تمثل 13 % من المجتمع فقط ، بمعنى أن رأي هؤلاء هو الذي يحدد القوانين الحاكمة للجميع ، والتي يفترض بها أن تمنع طغيان هذه الحرية على حقوق الآخرين ، لكن بالتطبيق تبين أن تأثير مالكي الثروات على أصحاب النفوذ ( السلطة ) أقوى بكثير من رأي الأفراد ، لذلك فإن التشريعات تغلّب مصالح هؤلاء مما يُخلُّ بالعدالة المجتمعية بشكل خطير .
التشريعات الإلهية ( الدين ) ، جاءت مكتملة غير خاضعة لهوى أو مصلحة فئة بشرية ، فهي تراعي مصالح كافة فئات المجتمع ، وتقوم مبادِؤها على ثلاثة ركائز : التحرر الوجداني المطلق ، والمساواة الإنسانية الكاملة ، والتكافل الإجتماعي الوثيق ، حيث أن كل عنصر مبني على الآخر (1 )
فالعبودية لله وحده تعني تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله ، فبذلك تتحقق المساواة بين البشر لعدم تمكن أحد من الخروج على النسق الواحد الخاضع لإرادة الله والتي تحكم الجميع على السواء ، ومقياس التفاضل الوحيد في الإرتقاء في منزلة القرب من الله هو تقواه ، والذي يتمثل بعمل الخير والإحسان الى الآخرين والإبتعاد عن ظلمهم ، فتغدو اللحمة الإجتماعية بين البشر على اختلافاتهم قوية والأخوة بينهم متغلبة على العداء .
أما اختيار نظام الحكم الذي يضمن عدالة تطبيق التشريعات ، فضوابطه الأساسية : الأهلية والحكمة والتمكن المعرفي ، أما طبيعته فاختيارها متاح للمواطنين حسب اجتهادهم وتطور خبراتهم ، وكذلك الأمر في تسمية الحاكم والهيئة الحاكمة ، لكن لا خيار لهم في الخروج على المبادئ الشرعية الأساسية ، والتي تكفل ضمان حقوق الجميع في الحياة الكريمة الحرة الخالية من الإكراه أو القسر ضمن مبدأين :
المبدأ الأول يتمثل بحفظ الحقوق لجميع الناس وليس فقط لمواطني الدولة ، لذلك فهو يتفوق على تشريعات الليبرالية التي تميز بين المواطن والغير : ” إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ” ( 2 ) .
الثاني : تحقيق العدالة بغض النظر عن المكانة وحالة العداوة وخطورة الجرم : ” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ” ( 3 ) ، وهذا المبدأ مهم لتحقيق السلم المجتمعي وطمأنة المتعدى إلى حصوله على حقه القضائي بعدالة وبلا تحيز مسبق ، ولا أدل على أهمية ذلك المبدأ ، من قوانين مكافحة الإرهاب التي سنتها الأنظمة الليبرالية التي تدعي التزامها بحقوق الإنسان ، ففي هذه القوانين المطبقة حاليا في كل دول العالم ، تحيز سافر ضد المنتمين للإسلام وتعدٍّ صارخٍ على كل حقوق من يتهمونه بالإرهاب ، فيما لا يطبق ذلك على عتاة المجرمين والسفاحين رغم أن بعضهم يمثل خطرا أعظم كثيرا على مجتمعهم من شخص يتعاطف مع من يرفض احتلال بلده .
لا يجوز أصلا أن نقارن بين العدالة الإلهية والعدالة البشرية ، لكن ما أوردناه كان بدافع الموضوعية والتزاما بمنهج الله : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا !!. فهل بعد ، يتبقى شك في أن الإسلام هو خير ما يحقق العدالة الإجتماعي للبشر !؟ .
.
المصادر :
( 1 ) د. سيد قطب ، كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام .
( 2 ) سورة النساء : 58
( 3 ) سورة المائدة : 8 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى