
العابرة والبقايا: قراءة ذرائعية في تشظي #الذات_الأنثوية وتحولات المعنى
تأتي روايةُ ” #العابرة_بقايا_امرأة” للكاتبةِ بلقيسِ الفارسيةِ في سياقِ الأدبِ النِسَويِّ العربيِّ، مستندةً إلى تجربةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ تعبّر عن التحولاتِ النفسيةِ والاجتماعيةِ التي تمرُّ بها المرأةُ في مجتمعٍ يحدُّ من حرّيتِها وتطلعاتِها. يعتمد النقدُ الذرائعيُّ هنا على تفكيكِ النصِّ إلى مستوياتهِ الأساسيةِ لفهم دلالاتِه وتفسيرِ رمزيّتِه، في محاولةٍ للكشفِ عن البنيةِ العميقةِ للروايةِ وما تحملهُ من مضامين
ما بين أيدينا نصٌّ يشكّل مزيجًا صوفيًا في قالبِ سيرةٍ ذاتيةٍ، نسجته بلقيسُ بأسلوبٍ عذبٍ ولغةٍ رقيقةٍ، خالصةِ الشعورِ وعميقةِ الإنسانيةِ.
أولًا: المستوى الأخلاقي (Pragmatic Level) يبحث في القيم والمواقف التي يبثها النص
يعرض النص تساؤلات وجودية ومواقف أخلاقية شديدة الحدة، من أبرزها:
حالة أنثوية مظلومة يعاقبها محيطها، الأسرة الصغيرة والمجتمع الكبير، على الحب والاختيار. بذلك يدين ضمنًا الأنساق الثقافية والاجتماعية التي تعاقب المرأة وتدينها على ذلك، من خلال عرض الصراع الداخلي للبطلة بين الالتزام المجتمعي والرغبة المشروعة في اختيار من يريد
قلبها، وهو موقف أخلاقي يتقاطع مع حرية الإرادة والاختيار.
ثانيًا: المستوى النفسي (Psychological Level) يستخرج الأبعاد النفسية للشخصيات وتفاعلها مع الأحداث.
إن الرؤى العاطفية و الصدمات و الآمال هي من تشكل دافع الكاتب لسيرته للكتابة فيعرض فيها نظرته لنفسه وللعالم ، بلقيس هنا عانت من الاضطراب العاطفي المتصاعد و المتتالي، تارة في الأسرة و مرات أخرى في الحب و الزواج و الأمومة نتيجة خيبات الامل التي تكبدتها في طريقها فيها لكنها لم تستسلم وتسلم رايتها بل كانت تتارجح بين الأمل و الانكسار
الولادة المتعسرة بدون دعم نفسي ومادي من الزوج، تظهر كرمز لصراع داخلي أكبر: الولادة كفعل بيولوجي ونفسي، لا يجد في المقابل سندًا من الطرف المفترض أن يكون حاميًا.
ثالثًا: المستوى الاجتماعي والسوسيولوجي (Sociological Level)
النص يفضح بوضوح بنية اجتماعية تقوم على: سلطةَ الأهل الذكورية التي تتحكم بمصير الأنثى (اختيار الزوج).الخذلان العائلي في أهم لحظات المرأة (الزواج، الولادة).
رابعًا: المستوى الأسلوبي واللغوي (Linguistic Level)
أهم ما يميز لغة الكتاب الانسيابية إذ لم تطوق لغتها بالبلاغة المترهلة على حساب المعنى و انسيابية الإحساس، فجاء النص معتمدا أسلوبًا شاعريًا سرديًا، يُوظف المجاز والتكثيف العاطفي بمهارة:
اللغة هنا تخدم المضمون، وتمنحه بعدًا شعريًا لا يُغرق في الزينة، بل يُثري التجربة الحسية والوجدانية للقارئ.بساطة الجمال و جمال البساطة في قالب متمكن عنوان لغتها .
خامسًا: المستوى الديناميكي (Dynamic Level) يركّز على حركة السرد وتطور الحبكة
يُظهر النص تطورًا في الشخصية:
من فتاة حالمة تبحث عن الحب ” ما أجمل كلمة أحبك حين تسمعها الفتاة من رجل يروق لها” 32 ، إلى زوجة منكسرة، إلى أم تتخبط في واقع من العجز والخذلان.”
هذا التطور الحاد في الشخصية يضيف حيوية سردية، وتتكئ الديناميكية أيضًا على المفارقات الشعورية، والتوترات الناتجة عن الصراعات بين الرغبة والواقع، بين الأنوثة والقهر، بين الأمومة والفقد.
سادسًا: المستوى الجمالي والرمزي (Aesthetic Level) يتناول أسلوب الكتابة، وبنية الجمل، والنحو.
العتبة (العنوان أو المقدمة) وُظفت بذكاء لتلعب دورًا تأويليًا: “العابرة والبقايا“.
“العابرة” تقترح مرورًا مؤقتًا، “البقايا” تشير إلى الشظايا المتروكة من التجربة. هذا التوتر الجمالي بين الحضور والغياب، بين التماسك والتشظي، يُنتج جمالًا مأساويًا عالي الدلالة.كانعكاس تلقائي للمفارقة الناتجة عن الحضور و الغياب التجمع و التشظي فتثير لذة فكرية ذهنية لدى المتلقي .:
العنوان يثير تساؤلات: هل البطلة مجرد عابرة في حياة الآخرين؟ أم أن الحياة تركت منها بقايا فقط
“المولود” = رمز للرجاء المؤجل، لكنه يُولد في غياب الحب، ما يجعله مؤشّرًا على ولادة ناقصة.
الرواية هنا لا تكتفي بالسرد، بل تؤسس شبكة رمزية تُغني النص وتفتح باب التأويل المتعدد.
تتميز لغة الرواية بثرائها الدلالي، وانسيابها التعبيري، إذ تتراوح بين السرد المباشر والتوصيف النفسي العميق، في تنويع أسلوبي يخدم التوتر الدرامي والشحن العاطفي للنص.
تكثر في الرواية الأساليب الخبرية والتقرير الذاتي، ما يخلق تقاطعًا بين السرد الذاتي والرؤية الخارجية الناقدة. كما توظف الروائية أدوات الربط مثل “لكن” و”إلا أن” لتعميق المفارقة النفسية، كما في قولها: “إلا أن كل هذا لم يشفع لها لتحظى بمن يستحقها”، حيث تعمل هذه البنية على تكثيف الشعور بالخذلان رغم التميز.
من الناحية النحوية، تُحافظ الرواية على التراكيب الفصيحة السليمة، مع ميل واضح إلى اللغة الإيحائية ذات الطابع الشعري. كما تُستخدم ضمائر المتكلم والغائب بالتناوب، ما يمنح الرواية بُعدًا تعدديًا في الرؤية.
اللغة هنا ليست أداة للقص فحسب، بل تتحول إلى كيان تعبيري محمّل بالوجدان والرمز، يتّسق مع الموضوع الوجودي الذي تعالجه الرواية.
سابعًا: مستوى المتلقي (Reader Response Level)
الرواية تُشعل في ذهن المتلقي:تساؤلات حول قدرة المرأة على الصمود.الشعور بالذنب المجتمعي تجاه النساء المهمشات.
تحليل الشخصيات من منظور ذرائعي
1. البطلة / المرأة العابرة
شخصية مركبة، تتقاطع فيها عناصر القوة والضعف، الأمل والانكسار.
2. الزوج (جوزيف) يمثل أنموذج الذكورة الباردة، البعيدة عن العاطفة والمسؤولية.
3. الأم والأخ
يمثّلان رمزين للمجتمع الأبوي التقليدي: التوجيه، القيد، الهيمنة.غياب الأم في اللحظات الحاسمة، و”صفقة” الأخ في تزويج البطلة، يُظهِران انهيار الدعامة الأسرية المفترضة.
ثانيًا: الزمن الروائي (الكرونولوجيا)
السرد لا يسير خطيًا كرونولوجيا ، بل يعتمد الزمن النفسي ” الداخلي” أكثر من الزمن الواقعي.
هذا التلاعب بالزمن يخدم البناء الذرائعي لأن:
التركيز يكون على الأثر النفسي، لا على الحدث. يبرز عمق التجربةلا كمجرد وقائع، بل كمأساة وجودية.
ثالثًا: الفضاء الروائي (المكان)
المكان ليس مجرد ديكور، بل له حمولة رمزية:
غرفة الولادة، منزل الزوجية،البيت الأبوي.
الفضاء هنا يعكس حالات النفس، ويخدم الوظيفة الذرائعية بتجسيد الداخل من خلال الخارج.
رابعا: الحوار والتعبير
النص الذي اقتُبس لا يضم حوارات مباشرة، لكنه محمّل بـالتيار الداخلي للبطلة (المونولوج).
هذا الأسلوب يُضفي كثافة وجدانية عالية ويجعل القارئ شاهدًا على انكسارات البطلة.
” همست روحي : أهلا بك في حياة جديدة مختلفة، مختلفة تماما” 43
الجانب الصوفي في رواية “العابرة: بقايا امرأة”
1. التحول الداخلي وطلب الحقيقة
الرواية تعرض شخصية مأزومة، تتنقل في فضاءات الحيرة والاغتراب والبحث عن ذاتها الممزقة، وهو ما يتقاطع مع المفهوم الصوفي لـ”السلوك”، أي الرحلة من ظاهر الذات إلى باطنها، ومن العالم الخارجي إلى الداخل الروحي. البطلة ليست فقط “عابرة” في المكان، بل هي “سالكة” في التجربة، تمر بمقامات الألم والغياب، لتصل إلى بقايا ما تظنه خلاصًا أو كشفًا.مثل قولها:
الرواية توظف لغة ذات طابع عرفاني، حيث تُكثّف العبارات، وتُشحَن بالمجاز والإيحاء. هناك ميل إلى التجريد، وإلى اختزال التجربة الوجودية في رموز مثل الظل، المرآة، الغياب، الارتقاء، العبور، وكلها مفردات تحيل إلى قاموس المتصوفة. هذا التكثيف يجعل اللغة أقرب إلى الدعاء أو المناجاة، لا السرد التقليدي.” يا زوهريتي” ص20“من يعرف قيمة نفسه لا ينكسر أبدا لأنه لا يتصرف إلا من خلال الله فقط” 95
3. الزمن الصوفي: زمن النفس لا زمن الساعة
الرواية تنحاز إلى “الزمن النفسي”، الذي يُماثل عند المتصوفة زمن “الحال” أو “الوجد”، حيث يفقد الزمن الواقعي معناه، ويحل محله الإحساس اللحظي بالانكسار أو الكشف أو الارتقاء. فالأحداث ليست مرتبة زمنيًا بل وجدانيًا، وهو أسلوب سردي قريب من التجربة الصوفية في تداخل الزمن بالمشاعر.” ما هذا القدر يا ربي و ما الحكمة التي تخبئها لنا نحن الاثنين!!” ص53
4. المرأة كذات صوفية مجروحة
بطلة الرواية ليست فقط امرأة مأزومة نفسيًا واجتماعيًا، بل تمثل نموذجًا لصوفية حديثة؛ تبحث عن المعنى في العالم القاسي، وتتعامل مع الحب والخذلان كـ”محن” و”ابتلاءات”، فتتطهر بالألم، وتكتشف أنها لم تكن تريد الرجل، بل تريد الله فيه، أو تبحث عن ذاتها من خلاله. هذا التوجه يذكرنا بصوفيات التاريخ مثل رابعة العدوية، التي ارتقت بالمحبة إلى مقام التجريد والتوحد بالله.” احذري الرجال فجميعهم ولدوا في الظلام و لا يعلمون للنور سبيلا” ص21
” ها هو القدر يصر أن يحدثني أو ربما روح وليد تخبرني بأنها حاضرة معي” ص29
5. الوجد والتجلي كآليتين تعبيريتين
في لحظات التوتر أو الخيبة أو التأمل، تنكسر اللغة في الرواية إلى وحدات شعرية توحي بالتجلي والانخطاف، وكأن البطلة تصل إلى حالة من “الوجد” – الشعور الحارق الذي يُنتج نوعًا من النشوة الحزينة، وهو ملمح صوفي بامتياز.” فاستجاب لي الرب وكان لي من يعقوب اسمه فحسب” ص61
خلاصة:
الجانب الصوفي في ” العابرة: #بقايا_امرأة ” لا يُصرّح به بشكل مباشر، لكنه يتسلل عبر البنية النصية، واللغة، والزمن، والشخصية. إنه صوفية سردية معاصرة، تنبع من تجربة الألم والتحول، وتقدم الأدب كوسيلة لا للترفيه، بل للتطهر والكشف والنجاة.
يتبين لنا
الرواية – بحسب ما قُدّم منها – تنتمي إلى الروايات الذرائعية التي توظف عناصر السرد من أجل غاية فكرية واجتماعية ونفسية، وليس للمتعة فقط. وهي تُحقق هذا عبر:
شخصيةمركزية مشحونة بالصراع الداخلي.هيكل سردي ينحاز للزمن النفسي.
فضاء رمزي مكثف.لغة وظيفية شاعريًا.وحوار داخلي ينقل الوجدان لا الحدث فقط.
العمل الأدبي المؤثر القائم على الغاية والمنفعة، إلى جانب الجمال الفني والتكثيف الدلالي.
العابرة: بقايا امرأة” هو عمل أدبي يحمل عمقًا فكريًا وجرأة في الطرح، لكنه قد لا يكون مناسبًا لمن يفضلون السرد التقليدي أو الحبكات الواضحة. ومع ذلك، فهو يستحق القراءة للنظر في القضايا التي يطرحها، خصوصًا لمن يهتمون بالأدب الذي يتناول تحولات الذات وقضايا المرأة من منظور نفسي واجتماعي.