د. #رياض_ياسين
اتفقنا أنا وصديقي المبدع الدكتور خالد بني دومي على أن الصمت غير السكوت تماما، ويكاد المعنى الحقيقي لكليهما يصل حد التضاد.ففي لغة الضاد دلالات المعاني لا تنطبق بالضرورة على دلالات المباني. أوحى أليّ الدكتور خالد بذلك عندما قدّم امامي حوارا عن عاشقين يبدأ هو باٌفناعها بأن الصمت لغة قد لا يتقنها غير العاشق الحقيقي، ولم تقتنع في البداية حتى تعلمت منه حرفة لغة الصمت، فكان ما أنجز في مسيرة عشقه لها، ان خلق منها حالة تشبه حالته، وهذه ليس بالضرورة دعوة لنقوم بتحويل الآخرين الى نسخ تشبهنا، بل البحث عن داعي المشاكلة في التواصل حبا وعشقا بين حبيبين.
في النسخة العربية للكلام سحرها الخاص، فالعرب أهل للكلم، وهم الذين استخدموا الكلام فحوّلوه الى علم دافعوا من خلاله عن عقيدتهم أمام العقائد الأخرى، فكان علم الكلام وهو النسخة العربية الموازية للفلسفة اليونانية التي ابتدعها فلاسفة اليونان وأبدع بها العرب شرحا وترجمة وبناء.
العرب أهل الشعر والنثر، والأكثر بوحا، ولا يملكون في كثير من تاريخهم سلاحا امضى من الكلام، وهم الذين جعلوا الأرض أخيرا تتكلم عربي، فهدروا بها فأسمعوا القاصي والداني، فأين هم عن ذلك، إذ غشاهم النوم فباتوا في كهوف مظلمة يشبهون أهل الكهف لا حسّ ولا خبر، فهم سكتوا ولم يصمتوا، فالصمت حالة مؤقتة نمارسها عند الضرورات، أما السكوت فوصمة عار تلحق بصاحبها، فقد سكت الشارع السياسي والملتقى الثقافي ومنبر النقابة، وحتى الأسواق والخانات سكتت، إذ أصابتها سكتة كلامية مرعبة،والداهية في هذا السكوت انه في حالة قضية مصيرية وليس في حالة عشق عابرة، ترافقها خيبة وما اكثرها.
الصمت في القضايا المصيرية من الخطايا الكبرى، لا تسمح لنفسك بممارسته، وفلسفة الصمت تقوم على المسك بالكلام عندما يكون التعبير تائها ومستصغرا، عندها الترفع عن الكلام واللوذ بالصمت أسلم وأهدى للروح والنفس ، وأنفع للناس.
الصمت فيه لغة كاملة الدسم، فالخيال صامت، والحلم صامت، والغضب دون كلام صامت، والفرح بالنفس والقلب صامت، وتمني الطيب للآخرين صامت، والشوق صمت، وأجمل ابسامة هي للصامت. في الصمت تتحد حواسك كلها، فالتأمل والتفكر والتحليل والتفسير، فهو ليس ضربا من العزلة والانسحاب من الحياة بل على العكس هو إعادة البدء في طريقة الاشتباك معها من جديد، وكأنه محطة مهمة للإنطلاق نحوها.
الا تتذكرون كم لبثنا ونحن نلهث وراء متطلباتنا ورغباتنا وحاجياتنا دون توقف، دون رحمة، دون أناقة، دون لباقة، وكنا نشكو التعب والقلق والتوتر، ونعطل لغة الهمسات الجميلة في حياتنا لصالح الصرخات العالية التي تدوي الأرض من حولها فعن أي تلوث أحدثكم إنه الضجيج الذي ملأ حياتنا صخبا ونصبا.
كل شيء الآن يبدو رتيبا مملا، هذه الحياة التي باتت دموعها تنساب برقة من عينينا ونحن تحاول جاهدين ان نمسحها، وقد نفدت علب المحارم الصحية من جيوبنا فغزارة الدموع مثل السيل الدافق الذي ينهمر دون توقف، أخشى أن تتعطل لغة الحياة وتبقى لغة العيون التي هي الأخرى مهددة لأنها مغمورة بدموع الحزن والألم والحسرة على ما اقترفناه من ذنوب وخطايا.
هل نحن امام مجرمين مجهولين أم معلومين لا نستطيع محاكمتهم والإمساك بهم والتعريف بخطاياهم، هل نحن قاصرون عن المجابهة نكتفي بكيل الاتهامات وتعداد الجرائم والخطايا دون أن نملك القدرة على المحاكمات والاقتصاص من مجرمي الحرب المفترضين؟وفي هذه الحالة الصمت ضرورة؟
لا طعم في حياتنا لكثير منها، خاصة وأن العولمة خلطت النكهات الجميلة وذوّبت ما تبقى من أصول الأشياء في بوتقات جديدة مصطنعة تجافي أصول الطبيعة فأقصت الإنسان الذي وجد يوما ما في حالة الطبيعة دون ادنى طموح سوى ان تمنحه الدفء والهواء والزرع، وما طرأ أن الإنسان المعولم أجرم بحق الطبيعة فاصطنع الحرب معها بكافة أشكالها ونسي أن انتقامها سيكون أكبر من كل إمكاناته.، فلم يعد قادرا على مخاطبتها لذلك اراه صامتا اكرم وأسلم له.
لست اهذي في نصف عقلي السليم الذي ابتعد ألم الشقيقة عنه مؤقتا فظل أقرب الى العاقل،… لكن حكايتي كملايين الحكايات في بلادي التي تبحث عن غفوة مؤقتة في زمن القلق هذا.. كنت ومازلت احب حياة ليست كالحياة.. أخاف على نفسي ومجتمعي من فقدان بوصلة الحب والسعادة.
صحيح أن جذوة الحب لا تنطفئ، تخبو نعم لكنها تعاود الاشتعال بعد أن نظنّ أن الخراب والدمار والشحار باتت كوابيس تقضّ مضاجع أمالنا فنحن مسكونون بالقلق والتعب المزمنين، لا مهرب منهما إلا إليهما مهما استرحمت نبرات دعواتنا ورجواتنا.
سنخرج قريبا الى عالمنا خجولين من أنفسنا وقد فارقناه قسراً لعلنا نعيد حساباتنا من جديد، فنقرض أنفسنا منه أملا نتصالح به مع نفوسنا وتلوث سلوكنا الذي أغضب منا الأرض التي منحتنا أكسجينها دون مقابل، يا لنا من غافلين.
rhyasen@hotmail.com