الشيطان في الخدمة المجانية
وسائل التواصل المجانية فيها شيطان يعيش على مدار الساعة مع المواطنين العرب على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم. أسهمت البطالة والتهميش وفقدان البوصلة في الإدمان عليها. تصلهم بواسطتها المادة كمعلومة أو خبر أو صوره أو فيديو. وغالبا ما تحرك مادتها مشاعرهم وتسوقهم بالاتجاه المطلوب. وبعضها يغير من قناعات ومفاهيم الكثيرين فيبادرون لتسويقها طوعا دون تمحيص. وهم في هذا ينسون ان هذه الخدمة مقدمة لهم بالمجان لتصل وتعمم على الفقراء منهم قبل الأغنياء دون أن يتذكروا أن لا شيء بالمجان، ولا يسألون عن هوية منشئ الخدمة. وهنا يكون الخطر ويتحقق المطلوب منها. *
لا شك بأن هناك جهات أخرى لا علاقة لها بمنشئ الخدمة وأهدافه تستغل هذه الخدمة لتضليل الناس والإيقاع بهم لتسويق منتوج مادي أو معنوي أو محاربة أخر دون أن يظهروا بالصورة، ونحن هنا لسنا بصددهم فهذه من الأثار الجانبية. ولكننا بصدد الهدف الأساسي الذي يرجوه منشئ هذه الخدمة. وهي بالتأكيد دولة أو جهاز دولي والهدف كما يلاحظه المتتبع هو سياسي أمني ثقافي.
إن المواد التي تصلنا من خلال تلك الوسائل وعلى رأسها “الواتس اب ” سواء كانت من تخطيط المنشئ أو من المستغلين المتطفلين أنما هي في سياق الأعلام أحادي الطرف والاتجاه، فهي مدخلات مسمومة من مرسل مجهول إلى متلقي وموزع معلوم، وتحاك بعناية لكل الفئات والأذواق يتقبلها المعني بها ويكون هو الجهة المستهدفة، ويرفضها المتلقي غير المعني بها. بمعنى أنها مواد ترسل لمن يصدقونها ويبنون عليها مواقف وهم الذين يبادرون لنشرها، وليس المقصود وصولها لمن لا يصدقونها الذين يبادرون لإهمالها أو مقاومتها وهم القلة..
ليس المستهدف بالخدمة شيئا ماديا فينا يُلمس، فهذه ليست جبهته، بل عقولنا وعواطفنا وذاكرتنا وبالتالي مواقفنا وسلوكنا كشعب عربي. فالمستهدف الأساسي هو بالضرورة جامع مشترك وهام فينا، وليس أمامنا سوى ثقافتنا الموروثة ومفاهيمنا من تلك المتناقضة مع أهداف الصهيونية ونمط حياة الغرب. والدلالات موجودة. وللعلم فان كلمة ثقافه مصطلح غربي وجذره في كلمة CULTالتي تعني عباده أو دين، فالدين كان هو المصدر الرئيسي وربما كان الوحيد لثقافة أية أمه، ومنه تشعبت العديد من مكونات الثقافة المتمايزة لتصبح نموا طبيعيا تراكميا من العرف والعادات والقيم والفنون والآداب والمعتقدات وطريقة التفكير والحياة وما إلى ذلك ولا سقف لها تقف عنده، ولكنها تمايزت لدى الأمم والشعوب.
الا أن الدول في التاريخ الحديث بدأت تتحول تدريجيا لتأسيس ثقافة الديمقراطيه تُقصي بها محددات الثقاقة الدينية عن نهج وطريقة الحكم والحياة العامة ، وبالتالي تطويع المجتمعات درجة وراء اخرى لخلق حالة قانونية تفسح المجال لتكوين ثقافه مادية مشتركه جديده متصالحه مع الدين ، لا تحاربه ولا تلغيه بل تبعد قيوده ومحدداته عن انطلاق العقل من الواقع المتطور وتعزز حرية تصرف الفرد في تحقيق ذاته كيفما شاء ضمن القانون المدني فحسب ، وتسمح للمتدينين المشاركة في الحكم على أساس من قيم الديمقراطية ، وتحمي حرية العبادة وطقوسها والدعوة اليها ضمن قيود الدستور المدني .
ومن هنا وفي حقبة العولمة والديمقراطية والحريات وانتقال الثقافات المختلفة مع الهجرات البشرية، تصبح الثقافة محل استهداف من الجهات المعنية بالحفاظ على ثقافاتها ونمط معيشتها. وليس هناك أخطر على الدول من غزو الثقافات. فالغرب دفع كثيرا من الدماء والمعاناة للوصول لنمط حياته التي يعيشها الأن ولا يمكن ألا أن يحميها. فنحن كعرب ومسلمين عندما نغزو بهجرتنا أوروبا وأمريكا حاملين ثقافتنا معنا فإننا نشكل خطرا على ثقافة ونمط حياة الغرب ونصبح بالتالي مستهدفين ومن هنا شنوا علينا هجوما ثقافيا مضادا نلمسه بالفضائيات. فصدام الحضارات برأيي مصطلح مضلل، والمقصود هو صدام الثقافات رغم وجود تداخل بين المفهومين، وقد تعمدت الصهيونية الامريكية الخلط بين المفهومين واحلال فكرة الحضارة محل فكرة القومية والدوله كمرجعية لتقييم المجتمعات واعتبروا الثقافة والدين الأساس لمجريات الأحداث والمحرك للتاريخ *
من الواضح أن الدول العربية تعيش خارج التطور التاريخي للدول فالزمن عند شعوبها متوقف. مما جعلها فريسة ومحل استغلال لأعدائها. فالمدقق يدرك بأننا نواجه الى جانب الهجمة العسكرية التي نُذبح فيها مع أوطاننا، هجمة أخرى إعلامية فكرية تضليلية تستهدف مسح أدمغتنا وموروثنا التاريخي ومفاهيمنا وثقافتنا وتزوير ديننا وفتح مواجهة بيننا وبين العالم. فوجودنا كأمة حية ضمن معايير العصر مستهدف ببدائل جاهزة، وهجمة التواصل المجاني بلورت فكرتها وبرمجتها الصهيونية صاحبة النفوذ والمصلحة الأولى.
هناك مراكز متخصصة في الدوائر الامريكية والاسرائيلية تعمل على مسح الذاكرة التاريخية للعربي وشيطنة مفاهيمه وثقافته ومعتقده وعلى تثويرنا على العالم وتثوير العالم علينا بأدلة مزيفة صنعوها من واقعنا العربي المهزوم والضاغط سياسيا وفكريا واجتماعيا ومعيشيا حين صنعوا من قادة ألبسوها عمائم وعصابات ومافيات نموذجا لدولة إسلامية في بلاد الشام والعراق يقدمونها مثالا حيا عنا للعالم ومزيفا. وتركوا لجانبها مشهدا إسلاميا أخر في إيران يعبر عن نفسه في تصدير مفاهيمه بالقوة.
علينا أن نكون حذرين مما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي، وأن نُخضعه للبحث البسيط والمتاح في النت والاستعانة بأصحاب الاختصاص لنتأكد من مصدره الأصلي ومن صحته ومرماه ونعريه ونضحده حتى نتحول من جزء في حملتهم علينا إلى نقيض لها ومقاومين. ولعل أخر دسيسة انتشرت على الواتس من أخطر المكائد الصهيونية بين المسلمين وإخوانهم المسيحين وكانت باعثا لكتابة هذا المقال. وهي مادة لصور حقيقية من داخل كنيسة قديمة في جمهورية التشيك تحوي عظام ضحايا الطاعون لعام 1318، وردت في مقال قديم، وأعادت الصهيونية إنتاجه اليوم وغيرت محتواه بصورة درامية استبدلت فيه عبارة ضحايا الطاعون بعبارة ضحايا المسلمين على يد الإرهاب المسيحي. جرم بحق الأمة أن تبقى سياستنا التعليمية قائمة على التلقين وليس البحث. *