#البردعة والسّرج و #الخيل_الأصايل
ولا توضع البردعة على ظهر الحمار ولا يوضع السرج على ظهر الحصان فيسهل ركوبه إلا بعد أن يأخذ حظه من التطبيع والتدريب مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، مرة بالعلف ومرة بالكرباج. والحقيقة أنه سواء كان ذلك في فعل #الترغيب أو #الترهيب، فإن الحمير والخيول معذورة، فهي ما خلقت إلا ليركبها الإنسان كما قال الله سبحانه: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} آية 8 سورة النحل. وأما الإنسان فإنه خُلق ليعبد ربه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} آية 56 سورة الذاريات.
وأما من لا يُعذر إذا حنى ظهره، فإنه الإنسان الذي ما خلقه الله سبحانه لينحني لبشر مثله، وإنما هو الذي لا يحني قامته ولا يطأطئ رأسه إلا لخالقه. وعليه فإنه ليس معذورًا إذا سمح لأي كان أن يركب ظهره سواء كان الركوب مع بردعة أو كان مع سرج، فإنها الإهانة والذلة التي لا يقبل الإسلام للمسلم أن يأتيها.
أنت من وضعت البردعة على ظهرك
جملة قالها أحدهم لمن اشتكى إليه سوء حاله وندمه وشعوره الهوان، وقد أفنى عمره في خدمة الظالم الذي ما لبث أن ألقى به في مزابل التاريخ. فمن يلوم هذا الذي يتجرع مرارة الذل والهوان؟ خسر دنياه وآخرته، خسر سمعته وشرفه، خسر ماضيه ومستقبله وهو يطبّل للظالم ويصفق له، جعل من نفسه مثل الحمار الذي وضعت على عينيه غمامة فهو لا يرى إلا ما هو أمامه من طريق اختار من يركبه أن يسير فيها، أما أذناه فلا تسمعان إلا انتهار الراكب وصوت السوط يهوي به على جنبه. فكان جواب من اشتكى إليه سوء حاله: “أنت من وضعت البردعة على ظهرك” أي أنك باختيارك رضيت الذل والهوان والسير في مواكب العبيد، فلماذا يلام السيد وهو يرى العبيد يفرحون باستعبادهم.
وإذا كان الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي قد تحدث في نظريته الشهيرة المعروفة باسم “القابلية للاستعمار” والتي يشير فيها أن الاستعمار لا يستطيع أن يحقق أهدافه في أي بلد عربي أو إسلامي أو من دول العالم الثالث ما لم يكن هذا البلد أو شعوب هذه الدول مهيئة للاستعمار أو مستعدة للتعاون مع المستعمرين، وأنه طالما أن شعب أي بلد لديه الإرادة في مقاومة المحتل وتتوفر في بيئته ومجتمعه الظروف والشروط المناسبة لمقاومة المحتل الظالم، فإن هذا البلد لا يمكن أن يخضع للمستعمر وأنه يستطيع النجاح في معركة الحرية والاستقلال والسيادة.
وإذا كان مالك بن نبي هو صاحب نظرية “القابلية للاستعمار” فإنه يشبهها إلى حد بعيد “نظرية القابلية للاستحمار” من الذين لا يجدون في أنفسهم الرفض ولا مقاومة من يريد أن يستخدمهم للركوب لتحقيق أهدافه. فإذا كانت الشعوب التي خضعت وكان عندها قابلية للاستعمار، فإن هناك من رضوا لأنفسهم نظرية الاستحمار، وقبلوا أن توضع البردعة على ظهورهم. فما يلوموا ما أصبح عليه حالهم من الذل والهوان.
لا تضع لجامًا في فمك فيضعون سرجًا على ظهرك
وإذا كان المرحوم الفيلسوف مالك بن نبي يحارب ويطالب الشعوب والأفراد بالتخلص من القابلية للاستعمار وهو بذلك يوضح الطريق في كيفية التخلص من قابلية الاستحمار في السلوك الشخصي، فإنه قد قال جملته المشهورة الرائعة في بيان الطريق للتخلص من الاستعمار ومن الاستحمار فقال رحمه الله: “لا تصمت عن قول الحق، فعندما تضع لجامًا على فمك فإنهم سيضعون سرجًا على ظهرك”.
فإذا كانت الشعوب بصمتها وسقوطها وعدم مقاومتها للاحتلال والاستعمار، فإن هذا الاستعمار سيزيد من ثقل ظلمه وصلفه ويستعمر هذا الشعب ويستحمره. وكذلك الفرد فإنه إذا صمت عن قول الحق ولم يقل للظالم يا ظالم ورضي أن يظل على الحياد وفي الظلّ، وإذا خاف أن يدفع ضريبة الحرية فإنه سيدفع ضريبة العبودية أضعافًا مضاعفة، وعندها سيتم استعباده واستحماره ووضع السرج على ظهره. وما أجمل وأصدق ما قاله الشهيد سيد قطب رحمه الله: “العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فاذا طردهم سيّد بحثوا عن سيّد آخر لأن في نفوسهم حاجة ملحّة للعبودية، فإذا لم يستعبدهم أحد أحسّت نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد وتراموا على الأعتاب يتمسّحون بها ولا ينتظرون حتى الإشارة من أصبع السيد ليخرّوا له ساجدين. إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر فيحسبون التحرر تمردًا والاستعلاء شذوذًا والعزة جريمة، ومن ثم يصبّون نقمتهم الجامحة على الأحرار الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق “. وما أجمل وأصدق ما قاله الشاعر أنس الدغيم في معنى الحرية، ورفض العبودية، ورفض الخضوع للظالم، ورفض أن تضع اللجام على فمك لئلا يوضع السرج أو البردعة على ظهرك فقال:
أنا للحياة خلقت للأفق البعيد لبشاشة الصبح التي تجري على خد الورود
حر ولا أرضى لنفسي الذل أو عيش العبيد
حرًا خلقت فكيف يرضى الحر قيدًا من حديد
إننا نراهم ومع الأسف ليسوا من عامة الناس، بل إنهم من العلماء ممن صمتوا عن قول الحق وانخرسوا عن نصرة إخوة لهم علماء مثلهم نالتهم سياط الظالم وسجونه، فملؤوا أفواههم ماء بل وضعوا لجامًا في أفواههم، ودارت الأيام وإذا بالظالم إياه يضع السرج على ظهورهم.
وإن منهم ليس أنهم قد وضعوا لجامًا في أفواههم، بل إنهم الذين شرعوا أفواههم وألسنتهم وعلت أصواتهم يمجّدون للظالم وهم أصحاب نظرية “عليك بطاعة ولي الأمر وإن سلب مالك وجلد ظهرك” وكأنهم يصمون آذانهم ويتناسون قول رسول الله ﷺ: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”.
ما أجمل قول نعم في مكانها، وأجمل منها قول لا وألف لا حين يتطلب الأمر ذلك، لأن عدم قولها يعني أنك رضيت لنفسك أن تحني ظهرك ليوضع السرج عليه، وما أجمل ما قال الشاعر:
لست مني ولست منك إذا لم ترفض الظلم ولست للمجد أهلًا
أي خير في الأرض إذا لم تقلها في وجوه الطغاة كلّا وكلّا
وقوله:
وقل إن قالت الدنيا: نعم للظلم قل: كلا
كانت بيوتهم سروج أحصنهم
وإذا كان زعماء العرب والمسلمين في زماننا يستذلون شعوبهم ويستعبدونهم ويضعون على ظهورهم البردعة ولسان حال أحدهم يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي} آية 38 سورة القصص. {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} آية 24 سورة النازعات. {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} آية 258 سورة البقرة. {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} آية 51 سورة الزخرف. والعجيب أن من يضعون على ظهور أبناء شعوبهم البردعة هم من رضوا لأنفسهم وباختيارهم أن يضعوا البردعة على ظهورهم. إنها بردعة السيد الأمريكي والروسي والإنجليزي وآخر طبعة، إنها بردعة السيد الإسرائيلي التي بات البعض يتهافت عليها تهافت الفراش على النار، بينما إذا قلّبنا صفحات التاريخ فإننا نجد عظماءنا وأبطال مجدنا ليس أنهم لم يضعوا بردعة الأعداء على ظهورهم، وإنما هم الذين كانت بيوتهم سروج أحصنتهم.
إنهم الذين قضوا أعمارهم ليس في قصورهم في لندن وباريس وكاليفورنيا، ولا الذين قضوا أعمارهم في قصورهم المتحركة في اليخوت الفارهة كما يفعل زعماؤنا اليوم، وإنما هم الذين قضوا أعمارهم على ظهور خيولهم يجاهدون في سبيل الله ولنشر الإسلام ودعوة الخير في ربوع العالمين.
فذاك عقبة بن نافع الذي وقف على ظهر حصانه وقد خاض في ماء المحيط الأطلسي بعد أن فتح شمال أفريقيا وخاطب المحيط قائلًا: “اللهم رب محمد لو أني أعلم أن خلف هذا البحر أرضًا لخضت البحر لإعلاء كلمتك”.
وذاك هارون الرشيد الذي كان يحج عامًا ويخرج للجهاد عامًا ويركب سرج حصانه وهو يخاطب الغمامة.
وذاك سليمان القانوني العثماني الذي ظلّ لسنوات يمتطي صهوة جواده في فتوحات بلغ فيها قلب أوروبا.
وذاك السلطان الشاب شهاب الدين الغوري في بلاد الهند والذي هُزم جيشه في معركة، فأقسم أن لا يخلع قميصه الأبيض إشارة إلى الكفن حتى ينتصر على الهنود، وظلّ خمس سنوات يمتطي صهوة جواده وقد اتخذه بيتًا وهو يعدّ لليوم الذي كان وحقق فيه انتصارًا تاريخيًا على الهنود.
وذاك صلاح الدين الأيوبي الذي جعل ظهر حصانه بيتًا له وهو يعد لمعركة استرداد القدس وتطهير المسجد الأقصى من الصليبيين، وهو وما كان.
إنه الفارق الكبير إذن بين من وضع البردعة على ظهره وباختياره لإرضاء صاحب جلالة أو فخامة مقابل علف يعلف به، وبين زعيم وضع البردعة على ظهره مقابل ضمان حماية من السيد الأمريكي أو الروسي أو الإسرائيلي، وبين من جعلوا سرج خيولهم بيوتًا لهم من أجل أن تعيش شعوبهم عيش العز والكرامة، إنهم الذين أفنوا أعمارهم خدمة لدينهم ولشعوبهم التي أرادوها عزيزة كريمة وليست مهينة مستعبدة.
يا رب يسّر قائدًا لا ينثني ويكون في يمنى يديه المخرج
يعدو بخيل عاديات جربت فخيول من سبقوه كانت تعرج
مهما تطل أيام ظلم عدونا مهما بدا أن المسالك ترتج
فبلادنا بالفاتحين خصيبة وستنبت البطل الجسور وتنتج
فلا تكن الخيل أفطن منك
إنها الخيول الأصيلة التي كانت ظهورها وسروجها بيوتًا للعظماء الفاتحين. هذه الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة كما قال النبي ﷺ. هذه الخيول يعرفها الفرسان الأبطال بأدق تفاصيل طباعها، وقد قال في ذلك ابن الجوزي: “إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك”.
بفطنة الخيل وذكائها تعرف أنها اقتربت من نهاية مسار السباق فتستجمع كل طاقتها حتى لا يفوتها الفوز بالسباق. ولأنني على يقين أننا على مشارف وبين يدي خير قادم وفرج قريب فإياك والكسل وإنما عليك ببذل الجهد بل كامل الجهد في نصرة الإسلام لتنال شرف المساهمة في هذا النصر.
ولن يستطيع ولن ينال هذا الشرف من ارتضى لنفسه أن يضع على ظهره بردعة ولا من وضع في فمه لجامًا، وإنما هو الذي امتطى صهوة المجد وانحاز بكل وضوح وثقة لمشروعه ودينه وهويته. فغدًا سينجلي الغبار وترى ونرى أفرس كان تحت البعض أم حمار؟
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..