الشهيد وصفي التل : اغتيال السمعة أشد وطأ من الاغتيال نفسه

الشهيد وصفي التل :
اغتيال السمعة أشد وطأ من الاغتيال نفسه
(دعوها فإنها منتنة ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
9 أيلول 2017

(إن أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر) صدق الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. والسطان الجائر ليس بالضرورة شخصاً طاغوتاً! بل إن أشد السلاطين جورا هو رأي عام غوغائي مضلل يفتي بغير علم ويشتم ويلعن ويهدد مستنداً إلى إشاعات وكذبات لم يتحقق منها قد انقلبت مع الأيام لتصبح حقائق عند الجهال تعيدنا إلى جاهلية ما قبل الإسلام. ومن أشد طغياناً وجوراً من غوغاء يدعي كثير منهم محبة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتورعون عن عصيانه وتحديه علناً علناً مسعرين فتناً لا تبقي ولا تذر ويهدمون المجتمع الذي أمر هو ببنائه دون أن يرف لهم طرف.
ألا نرى أن كل دولة عربية من دول سايكس بيكو يخطط لها أن تتفتت ، وأن الغوغاء هم حطب النار التي تأكل أخضر الأقطار المستهدفة ويابسها . لقد تقسم العراق على أسس طائفية منحطة ، تتبعه على خطاه سورية ، وتسير مصر نحوالتقسيم بين قبط ومسلمين ونوبيون أيضاً، كما تسير دارفور على طريق الانفصال مثلها مثل جنوب السودان الذي سبقها ، وليبيا الموحدة مذهبا وعرقاً بدأت ترى تقسيمها إلى ثلاث كما بدأت تسمع لاول مرة بالأمازيغية تطل برأسها هناك ! أما باقي شمال أفريقيا وبالأخص الجزائر والمغرب فإن الشق بين العروبة والأمازيغية تتم تغذيته في الوقت الذي كل الشعب فيه مسلم سني مالكي أشعري. وها هو برنارد ليفي الفيلسوف الفرنسي (والإسرائيلي) الذي يتلاعب بأشباه المثقفين الذين يحركون بدورهم الغوغاء من ورائهم والذي كان يصول ويجول كمفكر ملهم للثورة السورية وللثورة في ليبيا قد بدأ يتردد على الجزائر مسعراً مطالبات الانفصال. والمواطنون في العالم العربي كالقطيع . أما عندنا في الأردن فالفتنة المنتنة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها نهياً قاطعاً (الإقليمية) جاهزة مستعرة حتى عند المتدينين (زعماً) مثلها مثل طنجرة البريستو تنفجر في أية لحظة مدمرة الأخضر واليابس لا سمح الله . والمصيبة الأكبر أن المعلومات التي يستند إليها العوام لتسعير الأحقاد إما كاذبة أو غير دقيقة أو غير صحيحة بالكامل .
ويعجب المرء من وقاحة وجراءة أشخاص تبين الإحصاءات أن 90 % منهم لم يكن واعياً حرب 1967 وضياع نصف المملكة ، قد صحا بعد ذلك على أن نصف المملكة هي وطنه فقط إذ ينظّر ويزايد على المتمسكين بالدستور الذي لا يسمح حتى هذه اللحظة بالتنازل عن أي شبر من أرض المملكة وخاصة منهم من كانوا واعين الستينات والخمسينات ( أي لا يزيد عن 10% من سكان المملكة) فهؤلاء الآخرون يتلقون الدروس والشتم والتقريع والتجريح من “شاهد ما شافش حاجة” ممن لم يعرف ماهية الأردن وكيف كان يدار في عز تماسكه الداخلي ومن هم رجالاته الشجعان الكبار.
يتطاولون علينا مستعينين بسيرة الشهيدين وصفي وهزاع اللذين لم يعاصروهما ، ولا يستحي أي واحد فيهم أن لا يراجع التاريخ الحديث لوطنه ليعلم بأن فرحان الشبيلات وهزاع المجالي كانا لصيقين لا يفترقان بيتاهما بيت واحد ، وأن وصفي كان مقربا من فرحان الذي ألح على الرئيس الرفاعي عام 1955 بأن ينقله من ملاك الضريبة ليلتحق به في ملاك الخارجية مستشاراُ في السفارة في ألمانيا في قرية أصغر من صويلح اسمها بون اختارها الألمان عاصمة حتى لا ينسوا برلين . تلكم القرية لم يكن فيها من الأردنيين سوى اثنين (فرحان ووصفي ) وعائلتيهما. بمعنى آخر لقد تربينا وترعرنا بين هؤلاء الرجال الذين كان عندهم مشروع وحدوي كبيرفوق مصالحهم الخاصة عاشوا وماتوا هم يعملون له. وكنا في طفولتنا ومراهقتنا ندخل هذه البيوت كلها كبيت واحد وحتى سواقنا كانوا كفرد من عائلاتنا لا نأكل إلا وعلى راس الطاولة الأب وعلى الرأس المقابل السائق. هكذا كانت بيوت زعامات المجتمع الأردني النبيل في ذلك الزمان الجميل. وما المواقف التي ترونها من ليث الشبيلات اليوم إلا بعض ما شربناه منهم ولو كان أي منهم حياً اليوم لما وسعه إلا أن يفعل ما أدبنا عليه هو دون غيره.
يا حيف ! يشتموننا بإقليمية نتنة تستحضر التقيؤ مستندين إلى متخيلهم من سيرة وصفي وكأنهم يعرفون شيئاً عن وصفي وهزاع! ، ولو وصلت شتيمتنا إلى أسماع وصفي وهزاع في قبريهما لانتفضا من وقاحة شتم أخير من حمل إرثهما بشهادة كل من كان حياً من جيل وصفي وهزاع وفرحان ( اسألوا كهولكم). اهؤلاء الجهال يريدون أن يعلموننا من هو وصفي ومن هو هزاع ؟ بدلاً من أن يتتلمذوا على أيدينا (إن قبلنا أمثالهم أصلاً) لنلقنهم منهج وصفي وهزاع وفرحان الذين عايشناهم في منازلهم عن قرب. يصيحون مرددين أسماءهم بإقليمية نتنة قذرة المذكورون منها براء براءة الذئب من دم يوسف وهم لا يعرفون شيئاً عن مقدار رجولتهم وقربهم من بعضهم البعض والتزامهم بالأردن وفلسطين وعروبة الأمة. خذوا مثلا صغيرا على رجولتهم فقد رأى فرحان هزاع غاضباً يكتب رسالة للملك بعد أن أشاح الملك بوجهه مرة عنه فسأله عنها فقال له إنها للملك فقال له هاتها فأنا مطلوب إلى المقر (الديوان) غداً أسلمها له. ففعل ! وغضب الملك غضباً شديداً من الرسالة وقال لفرحان ألا يعلم هزاع أني أستطيع أن أسجنه بسبب هذا الرسالة فقال له فرحان : هل تريد أن تعرف ماذا سيقول هزاع يا سيدي؟ فقال له ماذا سيقول ؟ فأجابه : سيقول لصر……! واذا كانت النتيجة ؟ الملك زار هزاع بعد عدة أيام . (إسألوا أمجد هزاع عنها يا من لا تفهمون من الولاء إلا الانبطاح والتذلل ) .
ولكن هذا الصنف من الرجال لم تصل جرأتهم مع الملوك إلى حد التآمر والخيانة . إلا أن من المضحك المبكي أن المعارضين للنظام الملكي وكلهم كانوا انقلابيين وكانوا يعيروننا بأننا نحن أبناء رجالات النظام الملكي الذين أسسوا الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن الذي لم يعجب الثوريين أصبحوا بعد سنين ثوريتهم ملكيين أكثر من الملك ! وأصبحوا وزراء ورؤساء ومديري أمن وجنرالات يحاضرون علينا في الولاء للنظام الهاشمي الذي لم يكونوا في شبابهم مؤمنين به بل وعملوا ضده ككيان بكل ما أوتوا من قوة ، بينما نحن كما نحن ! على حالنا لم نتغير وبقينا مكاننا متمسكين بالنظام ولكن برجولة المقتدرين غير خانعين له وغير هائبين نقده ونصحه كما علمنا فرحان وهزاع ووصفي ! . ثم يخرج علينا جيل من الصيصان يخوضون في شؤون النسور والصقور والعقبان ؟ . جيل مراجلهم في وجه بعضهم بعضاً تناطح السحاب ولكنهم كالقطط أمام شاويش أو عريف ، أو أمام أصغر قائم مقام أو مدير ناحية ، أو حتى أمام سكرتيرة معالي الوزير. يتلعثمون أمام المسؤول وهم “يسيدونه ” و”يدولتونه” و”يعطفونه” و”يسعدنونه” وتتعثر مشيتهم من التذلل أمامه. ثم يتطاولون علينا “بشجاعة” من وراء الشاشات . يا حيف ! يتطاولون على من تربى في كنف نسر عربي كاسر اسمه فرحان وصقر أردني جارح اسمه هزاع وعقاب سوري ( سوريا الكبرى) باشق اسمه وصفي !! فعلا إنه لآخر الزمان ! فعلا إنه لآخر الزمان !!! فعلاً إنه لآخر الزمان!!!!! هؤلاء الذين خدموا العرش دون خيانة ولكن دون استخذاء أو تذلل أو تسول أو تكسب ، ودون أن يجرؤ كائنا من كان أن يطأ إزارهم أو يمس كرامتهم لأنهم كانوا أردنيين أعزة أوفياء لملك دستوري بايعوه على الدستور، ولم يبايعوه ملكاً ذا سلطة مطلقة يحلو له أن يفعل ما يشاء في غياب أو موات رجولة من يزعمون اليوم أنهم أردنيون ، بئست الأردنة الحديثة أردنتهم إنها أردنة “طنطات” ما تربينا عليها إذ هي أشبه بموضة السراويل الممزقة من الهندام المحترم.
إن من الإهانة الشديدة لوصفي وهزاع وفرحان وشفيق وعبد الحليم وسليمان وأضرابهم أن يذكرهم من لا يجرؤ أن يقتدي بهم. وإن كل من يستعمل إسم أحدهم ليبرهن زوراً وبهتاناً وعدواناً أن أحدهم كان إقليمياً لهو كذاب أشر لعنه الله لعنة واسعة على كذبه وعلى فتنته تلك . إذ هو لا يعرف شيئاً عنهم وإنما قد لبس عليه إبليس مواقف اشتبهت عليه اصطدام إدارات الصراع بينهم . ويكفي أن يعلم الأردنيون والفلسطينيون معاً أن أهم شهادة سمعتها عن وصفي (عدا ما أعرفه عنه أنا مباشرة أومن والدي) ما قاله مريده وتلميذه المفضل وأقرب الناس إليه والذي هو ابن نابلس جبل النار المفكر السياسي عدنان أبو عودة إذ قال : لم أر أبداً أحدا من الزعماء والسياسيين العرب يفهم طبيعة المشروع الصهيوني بالعمق والدقة التي كان يفهمها وصفي وبالإخلاص الذي كرس حياته كلها لمناهضته.
أيها الناس توقفوا ! لم يكن وصفي ابن سياكس بيكو التي تريدون أن تلبسوه رغماً عنه نصف قطر من أقطارها (ضفة من أردن بضفتين) . إن همته العالية كانت تناطح الجبال وحلمه من أحلام الكبار ، واسعا جداً أكبر بكثير من الضفة الشرقية وحتى الغربية معها يا صغار ! لقد حمل السلاح محارباً المشروع الصهيوني في فلسطين .ثم بعد قيام دولة العدو في 1984 اختار ابن إربد أن يسكن القدس وكان له صديق عزيز جداً ورفيق نضاله من أبناء القدس قد اختار أن يسكن بيروت . ويكفي أن تقرؤا رسالة التقريع التي وجهها إبن إربد الذي اختار السكن في الخطوط الأمامية للصراع في القدس إلى صديقه المقدسي الذي ترك القدس لبيروت لتعرفوا مدى التزام وصفي بفلسطين رأس حربة مقاومة المشروع الصهيوني . (الرسالة منشورة في الكتاب الهام الذي كتبته الأخت ملك التل عن وصفي التل). إنه وصفي الذي قال لا يمكن أبداً أن يكون هنالك سلام بيننا وبين “إسرائيل” . نحن مشروعان متناقضان لا يتعايشان. بمعنى آخر ، والكلام الآن لي ، لن يحدث تعايش إلا إذا هم تعربوا ، أو نحن تصهينا ! وإن ما يحدث عملياً الآن هو الثاني.. لذلك فعندما تسمعونني أقول لقد تصهينت حكوماتنا فاعلموا أنها رسالة من وصفي التل من قبره إليكم إن كان عندكم بعض رجولة وصفي لتجهروا بها.
“كان وصفي أكبر صديق للقضية الفلسطينية” أيها الجاهليون الإقليميون من الطرفين ، “لأنه كان وطنياً أردنياً ” ( قول علدنان أبو عودة) يدرك بلا تردد أن ضياع فلسطين سيسبب بالضرورة ضياع نصف الأردن الثاني. ولم يكن من البله الذين يكثرون هذه الأيام من الذين يعتقدون أن بإمكان الأردن الاستمرار بالوجود من دون فلسطين وسوريا إلخ إلخ … . كان وصفي صاحب مشروع وطني وحدوي يبدأ بوحدة بلاد الشام ولئن كانت عواطف ومشاعر هزاع وفرحان لا تقل عن مشاعر وصفي الوطنية إلا أنه قد تقدم عليهم بمباشرته عمليا صياغة مشروع وطني عملي لتحرير فلسطين تولى هو شخصياً صياغة الشق العسكري منه وكلف المفكر العروبي الكبير ووزير خارجيتنا الأسبق ابن نابلس الأستاذ أكرم زعيتر بصياغة المشروع السياسي منه (بالمناسبة الأستاذ أكرم أيضاً كان من اعز أصدقاء الوالد وقد صاهرناه وأودعنا عائلته الكريمة ابنتنا البكر ) . وعندما ذهب الشهيد وصفي إلى القاهرة لحضور مجلس وزراء الدفاع العرب كان وزير الدفاع الوحيد الذي حضر حاملاً مشروعا وضعه أمامهم مع خطط حربية لتحرير فلسطين حتى قال فيه أحد الوزراء الحاضرين الذي لم يكن قد التقاه سابقاً عندما سمع باغتياله في اليوم التالي : وددت أنني لم أتعرف عليه . فعلاً خسرنا عبقريته البريئة من كل إقليمية حقيرة نتنة.
في محاضرة له عن وصفي التل قال تلميذه عدنان أبو عودة لقد تم اغتيال وصفي ثلاث مرات : اغتيال سمعته من خصومه السياسيين في حياته ، ثم اغتياله بالسلاح ، وأما الاغتيال الأشد فهو اغتياله بعد استشهاده بتصويره رمزاً للإقليمية النتنة التي كان هو وجميع جيله يحتقرونها . فإن كنتم حقا من محبي وصفي التل ولا أخالكم من محبيه حقاً فكفوا عن إيذائه ! كفوا عن اغتيال سمعته بالتمسح به وباسمه كرمز عنصري للأردن. نحن الذين عايشناه وعايشنا من ذكرناهم معه وعاشرناهم في المنازل والرحلات والأسفار خذوا منا المعلومة وكفوا عن الإشاعة التي ترضي أهواءكم العنصرية ولا ترضي الله ورسوله : كفوا عن الاستمرار في اغتيال وصفي التل . فاغتياله بعد استشهاده أشد أذى من موته . رحمه الله ورحمهم الله جميعا . رجالات شربنا من أيديهم مباشرة شراب الوطنية والرجولة، أخلصوا للملكية لمصلحة بلدهم لكنهم لم يقبلوا أن يكون دليل إخلاصهم التذلل والخنوع والسكوت عن أي عيب يرونه مهما كان مصدره. فهل أسمعنا أحياء ؟ أم لا حياة لمن ننادي !
المهندس ليث الشبيلات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى