سواليف
همس لها “إن كان ذكرا فسأسميه ناهد ”، انقبض قلبها، “ولكن أخاف أن يستشهد عندما يكبر”، وقف رافعا يده “وأنا نذرته شهيدا لوجه الله تعالى من الآن”؛ كانت نعمة في الشهر الثاني من حملها عندما أصرت على أن تعمل القهوة للمهنئين بالشهيد ناهد مطير في نيسان 1994، وقد فتحت لهم منزلها، فالشهيد ليس أحد أفراد العائلة فقط، بل صديقا مقربا لهم، سيفتقدونه طيلة السنوات القادمة كلما حضروا مائدة الغداء.
19 حزيران 1994 في مشفى الهلال بمدينة رام الله، حمل الطبيب ناهد وأخذ يتجول به في المشفى يريه للأطباء والممرضات، “أنظروا ماذا أنجبت نعمة مطير.. أنجبت لنا بدرا” فيما الكل يطرق باب غرفتها مباركا ومبديا إعجابه بجمال طفلها الذي قررت العائلة أن يحمل اسم صديقها الشهيد ناهد مطير.
تقول نعمة، “كان أفراد العائلة يطلبون مني ألا أكشف عن وجهه وأغطيه خوفا من الحسد، ويقولون لي أنني لا أرى جمال طفلي جيدا … وعندما كنت آخذه للتطعيم كانت الممرضات تطلب مني صورا له ليعلقوها في المركز الطبي باعتباره ملك جمال الأطفال .. في كل مرحلة كان يمر فيها، كان يزداد تميزا وجمالا .. كان هادئا وخلوقا ومؤدبا والابتسامة لا تفارق وجهه”.
شهيدا ببطء
أيام وسنين مضت، كبر فيها ناهد متخطيا عتبة (21 عاما) من عمره، ليجد نفسه في 29/شباط محاصرا لأكثر من ثلاث ساعات من قبل جنود الاحتلال في أحد أزقة مخيم قلنديا الذي أصبح ساحة معركة بين جنود الاحتلال والمقاومين، “في آخر نصف ساعة عرفت أن ابني محاصر، بدأت بالاتصال عليه إلا أنه لم يجب فقد أغلق هاتفه … ليطمئني فيما بعد أنه بخير”.
اشتعلت النار في قلبها قلقلا على نجلها ناهد، قبل أن تراه قادما نحو المنزل وهو يعرج من إحدى قدميه بعدما وقع من علو أثناء محاولات انسحابه من المخيم، “كانت الساعة الواحدة عندما دخل المنزل، كانت ينزف من يديه ويعرج من قدمه .. أسعفته ثم قبلت أصبعه المصاب وتوسلت إليه ليبقى في المنزل”، تقول نعمة.
وتضيف أم ناهد، “خرج ناهد متذرعا بإحضار شقيقه من الخارج، “بعد 10 دقائق من خروجه بدأ وقوع الإصابات وسيارات الإسعاف لا تستطيع الوصول للمنطقة .. كانت الإصابات تصل لباب منزلنا وكنا نحاول مساعدتها”، مبينة أنها سمعت صوت هتافات لمجموعة من الشبان قادمة تجاه المنزل، البعض يقول شهيد وآخر يقول مصاب”، تتابع، “لم أشاهد وجهه ولكني تأكدت أنه أحد أبنائي”.
ركضت نعمة لتخرج من المنزل، أحد الشبان أغلق باب المنزل ومنعها من الخروج قبل أن تستطيع فتحه، فيما الشبان انشغلوا بوضع المصاب داخل المركبة، وجدت ابنها محمود ينهار باكيا لتعرف أن المصاب هو ناهد، “لم أستطع رأيته فالشبان غطوا وجهه فيما كان ينزف من رأسه تاركا أمام المنزل بركة دماء.. توسلت محمود ليخبرني من المصاب لكنه هرب من أمامي، كباقي الشبان الذين رفضوا الإجابة على سؤالي”.
وصفت إصابة ناهد بالخطيرة جدا وخاصة أنه نزف الكثير من الدماء، ما استدعى نقله إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي في مدينة القدس، “أمهلوه بدايةً 48 ساعة ليستيقظ، لكنه لم يصحو ولم يحصل معه أي مضاعفات .. ليظهر في التصوير الطبقي الأول تضرر أجزاء كبيرة من دماغه”. مرت 78 ساعة ولم يستيقظ ناهد بعد، ما يؤكد دخوله في غيبوبة.
بعد أسبوع من إصابة ناهد، أكد الأطباء أن دماغه تعطل أما قلبه ما زال ينبض بشكل طبيعي، وأصبحت عودته للحياة تحتاج معجزة من الله، “في 15 آذار ذهبت ووالد ناهد إلى المستشفى كالعادة، ليخبرنا الأطباء أن ناهد ما عاد يستجيب لأي محاولات لإنعاشه، وأبلغونا أن ناهد في ساعاته الأخيرة… بعد ساعة ونصف ناهد استشهد”.
“خلال الـ 15 يوما، كان ناهد يزداد جمالا يوما بعد يوما.. كنت أرفض أن أتركه، كنت أريد أن أعيش معه لآخر نفس له في الحياة”. تقول نعمة التي بقيت واقفة عند رأس ابنها طوال الوقت تقبل جبينه وتمسح وجهه.
وأثناء ذلك تحدث نعمة ابنها كما لو كان حيا، تهمس له، “كنت جميلا يا ناهد، ولكن كجمالك وانت نائم لم أشاهد.. أتأمل بكل تفصيل فيك وأرى فيك كل الجمال .. لم أكن أجلس معك كثيرا لانشغالك بالعمل، كنت أحب أن تبقى بجانبي بالبيت طول الوقت، أحسس على وجهك وشعرك .. وها أنت كسبتهم الآن فلا شيء بحياتي إلا أنت”.
عرسه يوم استشهاده
ما إن كان ناهد يدخل البيت كانت نعمة تترك كل أشغالها وتهتم به فقط، لتجلس معه ويبدأ بالتخطيط لمستقبله، “خرج ناهد بأجمل زفة، كنت أحضر لأزوج ناهد وأفرح به وكل يوم كنت أتحدث معه بذلك .. والحمد لله الزفة التي كانت لناهد كل شاب يحلم فيها”.
وتضيف، “ناهد كان ضحكة البيت، يفتح الباب موعد الغداء، وقبل أن يطرح السلام، يسألني عن حالي .. وإذا لم يجدني جالسة أنتظره؛ يبدأ بالصراخ مناديا علي، وعندما أرد عليه يقول لي أريدك دائما أن أفتح البيت وأجدك جالسة تنتظريني”.
قبل استشهاد ناهد بأسبوع سأل والدته، “من سيشفع لنا في الآخرة؟”، فردت، “الرسول محمد سيشفع لكل المسلمين، وأنا سيشفع لي شهيدان، ابن أخي والشهيد ناهد”؛ سرح ناهد يفكر بكلام والدته بعدما أخبرته أن الشهيد ناهد سيشفع له أيضا فهو سمي على اسمه، وضع يده على صدره متنهدا وقال، “أرحتي بالي والله”.
وتستذكر نعمة، كيف تناول ناهد طعام الغداء معهم يوم الاثنين ولأول مرة قبل إصابته مساء، حيث اعتاد أن يبقى خارج المنزل مع أصدقائه، “ما أن وضعت الطعام حتى دخل ناهد، بالعادة هو يرفض أن يحضر صحنه .. إلا أن رفض ان أحضره له هذه المرة وذهب هو وأحضر معلقة فقط وأكل من (السدر)”، وفي ذلك النهار لم يفارق ناهد عائلته.
ابن أبيه
في السنوات الخمس من حياته وبعد أن قرر امتهان الحلاقة، أصبح ناهد الأقرب لوالده فوزي مطير، فيقول الأب متحدثا عن ابنه، “كان ابن، صديق، وأخ .. كان باختصار مستقبل حياتي بالنسبة لي، كنت أريد تسليمه الصالون ويصبح هو المسؤول عنه، فعمله كمهني كان رائع وكان ذلك يجعلني مطمئن على العمل كثيرا”.
كان الصالون دائما محتشدا بأصحاب ناهد، الذين دائما يتوجهون إليه ويسمعون نصائحه، “كان الكل يحبه ويلجأ له ويسألونه عن كل شيء.. كان مرجعية لهم، لأن ناهد كان له بعد نظر من تجارب العائلة وطبيعة الحياة والظروف التي مررنا بها … فأصبح ناهد قائد صغير”.
وعن شخصية ناهد، يروي فوزي، “كان هادئا ولطيفا لا يعرف العصبية، يوجه أصدقاءه دائما .. عندما كنت أريد توجيهه كنت أستأذن منه بالبداية، فكان مستقلا بشخصيته”، مضيفا، “كان يلجأ لي بكثير من الأمور، إلا كرة القدم فكنا على خلاف دائما، فهو كان يشجع فريق برشلونة وأنا أشجع ريال مدريد”.
يوميا كان يخصص فوزي والشهيد ناهد جزءا من وقتهما للعب كرة القدم وممارسة الرياضة، “كان ناهد يتدرب حديد في احد النوادي الرياضية .. وعندما أريد ممازحة ناهد، كنت امدح شقيقه بجسمه الرياضي، فيغار ناهد ويبدأ بممارسة الرياضة فورا”.
لن تكون الأيام المقبلة سهلة على فوزي وخاصة أن شهر رمضان مقبل على الابواب، “بعد استشهاد ناهد، لم أكن أريد دخول الصالون ولا أريد رؤيته لسببين، أن هذا الصالون لناهد وليس لي، وأن كل ذكريات ناهد فيه”.
كان ناهد يخطط قبل استشهاده لتغيير تصميم الصالون وتجديده، “أصدقاء ناهد بعد استشهاده، وضمن مؤامرة نفذوها وعائلتي قاموا بتغيير الصالون كما كان يخطط ناهد.. كان صعبا علي جدا أن ادخل الصالون وناهد ليس فيه، رغم أن كل شيء فيه تغير، أجمل ما فيه كان كرسي ناهد الذي بقي مكانه وكما هو”.
ويستذكر فوزي وقع خبر استشهاد ناهد على العائلة قائلا، “كان أن أبقى قويا لأجل عائلتي وأشقائي، وأهالي المخيم الذين أقف دائما لجانبهم وأصبرهم .. كنت آتي على المنزل وأبكي أنا وزوجتي رغم فخرنا بناهد، واتفقنا أن يكون واحد فينا قوي كلما مال الآخر، وهذا الذي ساعدنا خلال إصابة ناهد واستشهاده فيما بعد”.
أعداد كبيرة من الأصدقاء والأقارب كانوا يحضرون إلى المستشفى للاطمئنان على ناهد خلال إصابته؛ وكلهم أمل أن يعود للحياة مجددا ففراقه بهذه السرعة غير مقبول، ما سلب الأب الوقت الكافي للاختفاء بنجله المصاب، “كنت أتكلم كثيرا مع ناهد خلال الدقائق التي تتاح لي .. كنت أحبه وأعاتبه، كنت أتمنى أن يعرف أشياء كثيرة”.
كان أبو ناهد يضع رأسه على رأس ناهد، يهمس له ويحدثه ويحثه على النهوض والعودة، يمرر فيها على كل جزء من وجهه ويقبله، وعندما يرفع رأسه كان يرى دموع ناهد تسقط من عينيه المغمضة. هو اليوم يقول، “أنا ندمت على شيء واحد، أنني لم أحضنه إلى صدري عندما كان يدخل ويخرج .. ندمت كثيرا”.
قدس برس