الشعور ضبطًا للبوصلة … الشعور أولًا / أروى التل

أروى طارق التل

احفظُ في آية المائدة 54 فينتابني ما ينتاب المُحب من هيبة وجلال في قلبه، كم تجرأنا على تلاوة القرآن بلا تدبر، وكم أسرفنا ؟!

سورة المائدة كلها موائد، كل آية فيها مائدة، وكل مائدة تُنشىءُ فكرة، وكل فكرة تتصل بأختها… كالأشقاء لا ينفصلان حتى يتصلا ولا يتصلان حتى ينفصلا، لا فكاك من أُخوَتِهِما، حتى اللحظة الأخيرة من بدأ القيامة، اللحظة الأخيرة من ادراك المعنى… “يوم يفر المرء من أخيه” يفر في اللحظة التي يجب فيها أن لا يفر … المعنى الذي في طياته معانٍ ؛ أن الإيمان دائمًا أولى بالبقاء، من كل معنى …
فقال في آخر موائدها في آيتها قبل الأخيرة : “هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم”

وقال فيما يقارب وسط السورة في آيتها 54

“يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم …”
فتأمل لو تأملت لومة اللائم وهو يلوم، وتأمل عندما تتأمل عدم خوفهم واضطرابهم من لومة اللائم، وتأمل الآية كاملة وانظر بعدها مقامك عنده جلّّ وتعالى في عليائه، وخذ موقفًا واحدًا وقفته في واقعك مهما صغر أو كبُر وقسه على الآية، ثم حرر نفسك مما علق بك وبها … فقد علق بنا الكثير الكثير ونحن نبتعد عن القرب من الله، حق القُربِ، وحق الحب…
فأن تكون ممن لا يخاف في الله من يلومونك لم قلت كذا !! ولم عبّرت بكذا !! ولم كتبت كذا !! ولم وقفت وقفة الحق كذا جهادًا في سبيل الله!!
أن تكون ممن لا ينساق، أن لا تخاف لومة اللائمين ممن حولك في هذا المجتمع المُضلل الخائف والذي يريد أن يُخوِّفك معه ويضعك في صف الخائفين، متماثلًا معه لا مترفعًا عن مخاوفه…
يُذيّل الله الآية بأن صفتك تلك هي فضل، فضل الله العظيم في عليائه عليك “ذلك فضل الله” وليس فضله فحسب بل و “يؤتيه من يشاء” من يشاء ولكن ممن، ممن من الناس والعباد عنده ؟
عد إلى بداية الآية لتدرك من هم هؤلاء الذين شاءهم الله أن يكونوا في دائرة هذا الفضل، صفة هيبة ومهابة لعباد خاصيِّين جدًا لا تحسب إنك منهم بسهولة، ولا يمكن لهذه الصفة أن تأتي سهلة أبدًا …
فهؤلاء هم من ذهب الله الخالص في الدنيا والمعدن الأصيل، صفة هيبة ومهابة…
صفة هيبة من الله وحده، وصفة مهابة تتحقق في مشاعرهم وأفعالهم فتلتصق بهم، فيصبحوا محط أنظار المجتمع البائس المترهل الفقير يريد نزعها عنهم، ليبتئسوا ببؤسه، وهم أهل الترفع، غناهم في مشاعرهم وشعورهم..
لا يخافون في الله لومة لائم ، فهم الذين فهموا مراد الله في دقائق الأمور وتفاصيلها، ذلك أن دقائق الإمور أشد بأسًا من كلياتها، فالإيمان الكلي يُدخل الجنة. أما تفاصيل التفاصيل فتجعلك في عين الله، أوما رأيت ما ابتدرت إليه بداية الآية ” فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه”
اذًا هم الأحباب أحباب الله، لا ينعجقون بحب غيره ولا يعنيهم، هم الوحيدون الذين يتذللون بعدها لكل مؤمن، راصين للصف، عزيزين على أولياء الشيطان،
هم وحدهم حينئذ الذين يجاهدون بكل صنوف الجهاد:
وأولها وأهمها الشعور ، ومن الشعور يبدأ جهاد العاشقين لا من السيوف، فلا تغريهم وسائل التواصل الإجتماعي ودفقها الشعوري على سبيل المثال لا الحصر الذي يقتل الشعور الحق وصلاح الشعور، ولا يغريهم معسول القول في إذاعة صباحية ولا يغريهم عرس لملك ولا فستان لأميرة ولا هيبة عندهم لحاكم، فالحاكم جليل في صفاته، معلوم لديهم، ولا يعنيهم ذاك الخوض مع الخائضين، حافظين لشعور الحب الإلهي لا يتلهون عنه ولا يمكن لهم، ويرون بعين ثاقبة مساخر الظالمين …ومساخر المظلومين في مجتمعاتهم على حد سواء،
وحين يتحدثون، يقولون ما يجب أن يقال ولا يعنيهم من يلوم حرصًا على عيش باطل لا تقال فيه كلمة حق كأدنى مراتب الإيمان وأعلاها في آن. ولا يعنيهم من يلوم حرصًا على شعور زائف يشبه المسرّات… يلهوون به ويتسلون، ويصنعون من زيف مشاعرهم وقتًا للاستجمام والراحة، من شدة الدين على مشاعرهم، وأولئك لا فطنة للقرب منه عندهم…
فقوم يحبون الله ويحبهم يمتلكون دفق الإيمان كله ومرة واحدة بصلاح شعورهم وحده، شعورهم لا يتجزأ كما إيمانهم … أوما رأيت أن أول كلمة وردت فيها الشعور في آية البقرة 9 حيث نزعت الشعور عن المنافقين جملة وتفصيلا لدرجة أنهم يظنون أنهم قادرون على خداع الله !!! فبأي زيف يعيشون ؟!!
قوم يحبهم الله ويحبونه صفتهم هيبة ومهابة…هيبة من والله ومهابة به في قلوب عباده يحاولون نزعها عنهم ليتخلصوا بها من هيبتهم في نفوسهم فتتساووا ضلالتهم بضلالتهم، الحاكم والمحكوم، الحاكم بالترهيب والمحكوم باللوم … أما هم فلا يجدي في قلوبهم إلا ذكره محررين من كل معنى غير معانيه…
ومجاهدات باللّوم لا تنتهي ليستتوا جميعًا على دكة الترهيب بنصف إيمان، نصفه دنيا ونصفه دين، وتلك مقامات لا ترتقي إبدًا الا “بقوم يحبهم ويحبونه” ولمن يحبهم ويحبونه ذاك الشعور، نبله وصفائه لا شائبة فيه، فاقع لونه يقهر المُترددين في إحياء موتى المنصرفين عنه …
فيدركون المعنى، والشعور بالمعنى دقه وجله، يدركون دفقه مرة واحدة لا يتجزأ ولا ينقطع … ولا يُنتقص، وأنى للائمين فهمه … إنه فضلٌ للمُحبين، فضل الحب يؤتيه من يشاء ممن شاء إخلاص الشعور له وحده…

فانظر إلى قلبك، في أي الصفوف رصَّ كتفه… ؟

تأملات_في_تفسير_القرآن

المائدة_موائد

يبدأ_الإيمان_بالشعور

الشعور_أولاً_ثم_أحكام_الشريعة

لهو_الحديث_والسمر_مقتلة_الشعور

الشعور_ضبط_البوصلة.

اللوم_عُدة_الخائفين

المائدة_آية_54

أروىطارقالتل

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى