الشباب الأردني بين الوعود المؤجلة وسياسات الهجرة للعمل

عندما يتحول #الأمل إلى #تذكرة_سفر: #الشباب_الأردني بين الوعود المؤجلة وسياسات الهجرة للعمل

#معاذ_الشناق ناشط نقابي و سياسي أردني


الجدل الذي أشعلته التصريحات الرسمية الأخيرة، بدا الشباب الأردني كأنهم يقفون في ممرٍ ضيق بين جدارين متقابلين: جدارُ واقعٍ يزداد صلابة، وجدارُ خطابٍ يزداد التباساً. القول المتداول بأن من يولد اليوم قد ينتظر دهراً قبل أن يطرق باب وظيفة حكومية، ترافق مع تصريحاتٍ منسوبة لوزير الداخلية فُسّرت على أنها دعوة إلى تهجير الشباب الأردني للعمل خارج البلاد. ليس مهماً هنا الدخول في سجال الألفاظ بقدر ما هو مهمٌ فهم الأثر: الرسالة التي تلقّاها الشارع بسيطة وقاسية معاً—البلد لا يتسع لأحلام أبنائه كما ينبغي.

هذا الأثر لم يولد من فراغ. لعقودٍ طويلة ظلّت الوظيفة العامة في الوجدان الأردني مرادفاً للأمان الاجتماعي، ومع تقلّص قدرتها الاستيعابية وتباطؤ خلق فرص نوعية في القطاع الخاص، وجد الآلاف أنفسهم في فراغٍ تام بين شهادةٍ مُكلفة وسوقٍ يزداد انتقائية. هنا تسلّل شعورٌ مرير بأن الحلول المتاحة إمّا انتظارٌ بلا أفق أو هجرةٌ بلا حنين. وعندما يُسمَع من موقعٍ رسمي ما يُفهَم منه أن “الخيار الخارجي” هو الممر الأسرع، يتكامل الإحباط إلى ما يشبه خلاصة سياسية: لا رؤية تُمسك بيد الشباب من التعليم إلى التشغيل، بل إدارةٌ لأزمةٍ تتكرّر بوجوه مختلفة.

مقالات ذات صلة

لكن الحقيقة الأوسع تقول إن المشكلة ليست في جملة قيلت على وسائل الإعلام، بل في معادلةٍ اقتصادية واجتماعية تتطلّب كسر الحلقة المفرغة: تعليمٌ لا يقيس مهاراته على حاجات الاقتصاد، واقتصادٌ يطلب كفاءاتٍ لا تخرّجها الجامعات بالقدر الكافي، وإدارةُ توظيفٍ لا تزال أسيرة إجراءاتٍ تُشعر الناس بأن العدالة بطيئة والجدارة غامضة. في هذه الفجوات تنمو سردية “الخروج”، لا لأنها قدرٌ مقدور، بل لأنها تبدو—للأسف—الأكثر معقولية في ميزانٍ مائل.

المطلوب اليوم ليس تبريراً لغويّاً لما قيل، بل انقلابٌ عملي على طريقة صناعة الفرصة. لا معنى لأي حديث رسمي ما لم يتحوّل إلى منظومة تمكينٍ تبدأ من قاعة الدرس وتنتهي في مصنعٍ أو شركةٍ أو حاضنة أعمال. الدولة مسؤولة عن فتح الممرات لا رسم اللوائح فحسب: إعلانٌ وظيفي يقوم على المنافسة الشفافة، مسارات تدريب مدفوعة بمؤشرات أداء واضحة، تمويلٌ عادلٌ للمشروعات الصغيرة والمتوسطة بعيداً عن التعقيد والمحسوبيات، وشراكاتٌ مُلزمة بين الجامعات والقطاع المنتج تضمن تحويل المعرفة إلى قيمة، لا إلى أوراقٍ مؤطرة على الجدران.

ومن حق الشباب أن يسمعوا كلاماً واضحاً لا يحتمل التأويل: الوظيفة الحكومية لن تكفي الجميع، لكنها ليست الباب الوحيد ولا الأخير. الوطن الذي نريده لا يُستبقى بالرواتب وحدها ولا يُهجر بالتصريحات وحدها، بل يُبنى بمعنى العدالة حين تتساوى الفرص، وبمعنى الكرامة حين تصبح الكفاءة جواز المرور. حينها فقط تتراجع جاذبية الهجرة بوصفها “طريق النجاة”، لأن الداخل يغدو قادراً على منافسة الخارج بعقودٍ منطقية ومسارات تطورٍ مهنية ودخلٍ يحترم الوقت والمهارة.

الاقتصاد الأردني ليس فقيراً إلى العقول، بل إلى إدارةٍ ذكية للطاقات. التكنولوجيا والخدمات المتقدمة، والزراعة الذكية، والصناعات الدوائية والغذائية، والسياحة المتخصصة، وسلاسل القيمة اللوجستية—كلها قطاعات قادرة على خلق عملٍ كريم إذا أُزيلت عنها طبقات الجمود والرسوم والإجراءات المُثقلة. والمغتربون الأردنيون ليسوا “مشروع تهجير”، بل شبكة قوةٍ يمكن أن تتحوّل إلى حاضنة استثمارٍ ونقل خبرةٍ إن وُضعت لها قنواتٌ عملية لا احتفالية.

لا يُطالب الشباب بمعجزات. يطلبون حكومة تصارحهم بالخطة والزمن، وتلتزم بقياس النتائج لا إعلان الوعود. يطلبون أن يكون الطريق إلى الفرصة واضح المعالم: امتحانٌ معروف، منافسةٌ عادلة، عقدٌ محترم، وسقفٌ مفتوح للنمو. يطلبون لغةً سياسية تحترم ذكاءهم، فلا تلوّح بالخارج كأن الداخل مفلس، ولا تَعِد بالداخل كأن الخارج غير موجود. بين الاثنين يمكن صياغة وطنٍ يُقيم ميزانه على ركيزتين: جدارة لا تُشترى، وأملٍ لا يُهاجر.

من هنا، فإن تحويل الجدل إلى فرصة يتطلب لحظة شجاعة: الاعتراف بأن السياسات القديمة استنفدت طاقتها، وأن المستقبل لن ينتظر إيقاع البيروقراطية. ما قالته التصريحات—مهما كان مقصدها—كشف هشاشة العقد غير المكتوب بين الشباب ودولتهم. إعادة كتابة هذا العقد تبدأ بفعلٍ لا ببيان: فتح بابٍ واسعٍ للتدريب المربوط بالتوظيف، حلولٍ ضريبيةٍ مرنة لروّاد الأعمال، رقمنة إجراءات الاستثمار الصغير، وتطييب خاطر المجتمع بشفافيةٍ رقمية تُظهر أين تُخلق الوظائف ومن الذي حصل عليها ولماذا.

الأردن ليس بلداً عابراً في حياة أبنائه. هو بيتهم الأول والأخير. وحين يُمنح الشباب ما يستحقون من مكانٍ ودورٍ واحترام—ليس في الخطابات بل في الأرقام والعقود—سيتحوّل الغضب الكامن إلى طاقة بناء. يومها لن تبدو “الهجرة للعمل” قدراً، بل خياراً شخصياً لا تعوّل عليه الدولة لتعويض عجزها. وحين يعود الخط الوطني إلى معناه البسيط—أن يعيش الإنسان بكرامةٍ في بلده—سيكتشف الجميع أن أصعب الأسئلة كانت تحتاج إلى أبسط الإجابات: عدالةٌ في الفرص، وضوحٌ في الطريق، ومكانٌ يليق بمن يصرّ على أن يبقى فيه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى