السيرة الذاتية للمتقاعدين العسکريين / شبلي العجارمة

﴿ السيرة الذاتية للمتقاعدين العسکريين﴾
ذاب عمر الورد في وهج أحلامهم وقد نفتهم أحضان الأمهات وتخلت عنهم القری الحبيبة ومراتع الصبا، من منهم لا يحمل ذاکرة الزرقاء وخو والصحراء ومجمع رغدان القديم ومجمع الزرقاء الکبير والقديم أيضاً،من منهم لا يروي قصص السفر للرويشد والعقبة والشمال ، أکبر مغامراتهم دارت في شارع السعادة وهم يتنقلون بين دکاکين الخياطين للأزياء العسکرية، کم من تاجرٍ ضحك عليهم وغشهم بالسعر لأنهم بعد أن ترکوا مدارسهم انخرطوا في رهط الأغرار ، الباعة في الزرقاء کانوا يعرفون ويميزون الأغرار من القدامی من حلاقة الرأس وشحوب الوجه ونحافة الخصر .
اصطفت جحافلهم علی ميناء الوطن، وشتتهم السفن المبحرة إلی الشواطیء المجهولة ، تقاسمتهم الأرض والمدن والقری والبلدات البعيدة ، لکنهم کذاکرٓة الحمام الزاجل مهما ابتعدوا وشطت بهم سفن العيش يعودون إلی أحضان الأمهات أطفالاً ويقبلون أيادي آباٸهم الخشنة ، رجالاً صاروا يعرفون أن حياتهم بکل لحظاتها تحملها قسيمةُُ ورقية لا تتعدی الخمسة سنتمترات وهي تحمل متناً واحداً طيلة العشرين عاما وهو اليوم والوقت ومن و إلی وعنوان قريتهم ، وهکذا صار العمر جغرافيا ورقية ورزنامةُُ من الأيام التي تحملهم إلی آخر الشهر حيث الراتب ، وساعةُُ تحدد متی يدخلون إلی بيوتهم ومتی يغادرونها ، وکثيرُُ منهم اختصر رحلته إلی عنوانٍ طاریءٍ جديد وصل إلی مقبرة القرية وترك الرزنامة وساعة يده لبيته وأطفاله ليبدأون بعد مراسم العزاء بتعداد الأيام للوصول إلی الراتب أيضاً.
وسرعان ما صاروا رجالاً وقد عادوا إلی بيوتهم يحملون تفاصيل الجندية کسبحتهم التقليدية وعلاقة مفاتيح صندوق متاعهم العسکري ، وبدأت رحلة البحث عن رزنامةٍ جديدة وساعةٍ أخری لانتظار راتبٍ إضافي غير راتبهم المنهك والمتشظي بين السلف والقروض والديون المتراکمة .
جنديةُُ أخری من نوعٍ آخر أقل احتراماً وهيبة علی أبواب الشرکات والمصانع والمنشآت أو کساٸقين عند أحد الإقطاعيين، فهم فقط احترفوا الجندية والخفارة والبندقية ، لا يحملون من الخبرات ما يٶهلهم إلی أن يعبروا داخل مکاتب الشرکات أو حتی حرية التجوال في أروقتها ،”إذا مش عاجبك في غيرك کثير “ کانت هذه جملة مدير الشرکة أو المنشأة التقليدية لمن تسول له نفسه بالفلسلفة أو طلب زيادة أو مجرد إجازة ليوم واحد ، فقط برج إسمنتي علی أطراف الأسوار وفي الزوايا في غوغاء الريح ومحيط الليل السرمدي ، أو في کوخٍ بمساحة متر بمتر ونصف علی بوابةٍ کبيرة ويحمل ابتسامةً مصطنعة لترضي سيد العمل وسکرتيرته وزباٸنه الVIP .
وصار المتقاعدون العسکريون شعار انتخابي لکل مترشح ، وفقرة إنشاٸية مهمة في خطابات النواب ونص تعبيري ثابت في مناقشة الموازنة العامة ونغمة واحدة في سياق جملة أصبحت عُرف ممل ” إن المتقاعدين العسکريون يشکلون شريحةً کبيرة و و و “ ، وکلما زادت الخطابات وتراکمت الشعارات تکدس فوقها الغبار في ملفات النواب والحکومة وفي أرشيف الدولة .
نموذج العم نواف لا زل ماثلاً أمام عيني وعالقاً في ذاکرتي وهو متقاعد من جهاز الأمن العام بعد خدمةٍ دامت إثنان وعشرين عاماً وقد استلم شيك الإسکان العسکري وهو مسجی علی فراش الموت في مستشفی النديم وقد تم صرفه للورثة ولم تکتحل عيناه بقراءة النص ”لأمر السيد نواف“ ، وما يثقل ذاکرتي بالوجع حين يذکر الجميع تعاليله في القرية وهو کلما تحدث عن المستقبل أو يطلبه الدکنجي أو الخضرجي ديونه فيجيبه العم نواف ” بس يطلع هالإسکان إن شاء الله “ ، فخرجت روحه قبل أن يخرج شيك الإسکان إلی حيز الصرف والتنفيذ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى