السياسيون وتنامي ظاهرة النفاق السياسي
أ.د أنيس الخصاونة
انتشار النفاق السياسي ،أو ما اصطلح على تسميته بالإنجليزية(Political Hypocrisy)، للقيادات السياسية والمراتب العليا في الأنظمة السياسية والحكومية يكاد أن يكون خاصية تميز السلوك السياسي لمعظم الدول غير الديمقراطية . هذا السلوك النفاقي يكاد أن يشمل جميع الدول العربية لا بل والدول النامية أيضا . مقالتنا هذه تركز على استشراء ظاهرة النفاق السياسي في الأردن حيث أصبح مثل هذا السلوك يستوقف بعض الأردنيين ممن لهم اهتمام بالشأن العام والسلوك المجتمعي والتغير القيمي الذي يشهده هذا البلد الطيب. صحيح أن الأنماط السلوكية المجتمعية تتأثر بمجمل التغيرات والتطورات التي يشهدها عالم التكنولوجيا والاتصالات وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي ولكن لا يمكننا فهم أو تفهم التغير الكبير في أنماط اتصال وتعامل الأردنيين مع بعضهم وخصوصا التعامل مع شرائح وأفراد تتمتع بالقوة أو الجاه أو السلطة أو المال. المنافقون متنوعون وليسوا من شريحة واحدة فمنهم الكتاب ورؤساء حكومات سابقين، ووزراء وأكاديميين، ورجال دين معممين وغير معممين، ونواب وأعيان، وصحفيين وغيرهم.
نعم النفاق الذي نشهده لأولي السلطة والجاه نفاق مقزز وهو يتضمن قلب للحقائق وتزوير للواقع وإظهار للأشياء على نحو مغاير لواقعها. بعض المرؤوسين ينافقون لرؤسائهم ويتزلفون بطريقة تذهب صفة الكرامة الإنسانية عنهم وتدمر احترامهم لأنفسهم واحترام الغير لهم، والموظفين ينافقون لرؤسائهم ويمررون المعلومات التي يرغبون بسماعها ويخفون عنهم المعلومات الحقيقية عن عمل أقسامهم ودوائرهم .أما أولي الأمر فحدث ولا حرج عن مهارة وبلاغة المنافقين في مدح السلطان لدرجة أن هذا المدح أصبح فنا ومدرسة يتبعها ويجاهر بها أفراد كثيرون ولا يخجلون في البوح علنا الى أنهم يريدون الوصول لمبتغاهم بأي وسيلة واي طريقة منطلقين بذلك من أن الغاية تبرر الوسيلة وضاربين بعرض الحائط بقيم الإسلام الرائعة التي تحث على الشجاعة في قول الحق. وفي الوقت الذي يمكن تفهم مسوغات نفاق المصلحة أو نفاق من لا يملك الى من يملك، ونفاق من ينقصه جاه وسلطان الى من يملك الجاه والسلطان، فإننا لا نجد تفسيرا لنفاق بعض الناس الى أفراد وشخوص ليسوا بحاجة الى ما لديهم من سلطان أو جاه أو مال فمن أجل ماذا ينافقون؟؟؟
يا ترى لماذا هذا الانتشار للسلوك النفاقي ولماذا أصبح هذا السلوك أكثر قبولا من الناحية الاجتماعية أو أقل رفضا على الأقل من قبل الناس مقارنة مع الغابر من الأيام؟ وما علاقة النظام السياسي بانتشار هذا السلوك النفاقي؟وهل يفضل المسئولين التعامل مع مثل هؤلاء المنافقين أو استئجارهم للعمل وإطرابهم بالمديح والكلمات الرنانة التي تظهرهم على أنه خارقين للعادة أو ” سوبر بشر” ؟ لماذا يركز النظام على اختيار من يتقنون الكلام عن الانتماء والوطن والمواطنة والأداء والإخلاص في حين أنهم هم الأسوأ انتماء ووطنية ومواطنة وأداءا وإخلاصا؟ هل تريدون أسماء فاللائحة طويلة ويمكننا أن ندعم ما نقول بالواقع ولكننا حذرون من القضاء والمحاكم التي يستطيعون “جرجرتنا” إليها لشهور وسنوات ليثبتوا أنهم مخلصون للوطن وأننا قد قدحنا مقاماتهم “العليا” مع أنها ليست عليا لا في الدنيا ولا في الآخرة .
النظام السياسي الأردني أسهم إسهاما كبيرا في نشر وتعزيز السلوكيات النفاقية في المجتمع الأردني من خلال تقييد الحريات ،واستبعاد أصحاب الرأي والناقدين للسلوك الرسمي وملاحقتهم، واستقطاب الناس واحتواء المعارضين واستمالة الشيوخ بلقب شيخ أو شيخ مشايخ، أو تعيين عين في مجلس الأعيان أو في الوزارة أو بالهبات والأعطيات على طريقة السلاطين العرب القدماء في إكرام الشعراء المداحين “أعطه ألف درهم يا غلام”.
النظام السياسي الأردني وباستخدام أسلوب العصا والجزرة تمكن من الأردنيين وحول المعارضين التاريخيين للنظام الى مؤيدين تأييد أعمى له وحول من المؤيدين الى رداحين يقولون في النظام ما ليس فيه وينظمون الشعر ويطوعون اللغة العربية لإبراز صور مجازية وبلاغية عن النظام لم يقولها أصحاب المعلقات أو عمالقة الشعر والنثر في التاريخ العربي القديم والحديث.رؤساء حكومات سابقين ينبرون أمام أولي الأمر ليقولوا أنهم يتعلمون من حكمتهم وبعد نظرهم لا بل ويخاطبهم أحدهم “يا ابن رسول الله متناسيا قول رب العزة”مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا”، ويخاطبه آخر بقوله “يا ولي النعم” متجاهلا أن الله هو ولي النعم!.
صورة النفاق لأولي الأمر تتكرر على مستوى كل مؤسسة ودائرة وجامعة فهم جميعا يقلدون من هم أعلى منهم رتبة ومنصبا فالوزير يقلد رئيس الحكومة في وزارته والأمين العام يقلد الوزير ومدير الدائرة يقلد الأمين العام وهكذا دواليك.
المنافقون أكثر عداء للوطن والنظام من أعداء الأمة الخارجيين ،ونعتقد بأن طرب أولي الأمر والمسئولين في الأردن للمديح الزائف وتكريم المادحين والمنافقين على حساب الأردنيين الآخرين الذين تأبى كراماتهم ومروءتهم أن يأتون بسلوكيات رخيصة تذهب عزتهم وكرامتهم هذا الطرب للنفاق يؤذي الوطن ويدمر قيم المجتمع.النفاق السياسي له علاقة عكسية مع مستوى الديمقراطية والحرية في الدولة إذ كلما كانت الدولة أقل ديمقراطية وأقل حرية زاد انتشار النفاق السياسي للحكومات والمسئولين وأصبح النفاق ،وليس الأداء والإنجاز ،وسيلة للوصول إلى المواقع والمصالح. وأخيرا نقول بأن النفاق هو استعباد وعبودية وعلى المسئولين أن يتذكروا قول الفاروق عمر ابن الخطاب متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا …