الدين للحياة

  #الدين_للحياة
د. هاشم غرايبه
سألني صديق فاضل: كيف لي أن أتخيل مسلما قضى عمره عابدا طائعا، لا يقرب الكبائر ولا يظلم الناس، لكنه كان يصيبه الكسل فلا يؤدي النوافل ولا يحسن ضبط نفسه عن اللمم من الذنوب، يأتي هذا الشخص يوم القيامة وقد رجحت كفة سيئاته قليلا، كيف سيلقى هذا في النار الى جانب العصاة وأعداء الله ؟
الحقيقة أن هذا الأمر يقلق أغلب الناس، لأن الخاسر الحقيقي هو من خاب سعيه في الحياة الدنيا، وكان متوهما أنه صالح مصلح، فلا يزن أعماله أولا بأول، بل يغفل مطمئنا عن عمله وإذا به من الأخسرين أعمالا.
بل إن المرء كلما كان أكثر تقوى، كان قلقه من يوم الحساب أعظم، لأن هنالك الطامة الكبرى والندامة العظمى، يوم لا تنفع الندامة ولا تفيد التوبة، لذلك فالعاقل لا يقول دع الحساب ليوم الحساب، فيومها لا محاججة ولا دفاع، بل إذعان وتسليم، لكنه يحاسب نفسه أولا بأول ويعدل الموازين قبل الميزان الفصل، فلا يدع مظلونا ظلمه ولا حقا أكله، إلا عدله وأصلحه، لكي يأتي يوم القيامة آمنا مطمئنا حاملا كتابه بيمينه ويقول: “هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ” [الحاقة:19].
لكننا نعلم يقينا أن الله لم يخلق الناس لكي يعذبهم، بل لكي يسعدهم في نعيم لا يزول، ولم يخلق الجنة إلا من أجلهم، ولأنه يحبهم، أما النار فقد خلقها لكي تخوفهم منها وتبعدهم عن سلوك الطرق المؤدية إليها، وتحفزهم للعمل الذي يؤهلهم لدخول الجنة.
هذه الثنائية التقابلية هي سنة الله في الكون: جنة ونار..نعيم وشقاء..موت وحياة..خير وشر..ظلم وعدل.. الخ، ولذلك لا شك أن لكل منهما اتجاه يناقض الآخر، ونتيجة معاكسة، فمن يعمل خيرا ينتج عن عمله نفع، ومن يعمل شرا ينتج ضررا، فلا يعقل أن تنال النتيجتان المتعاكستان الجزاء نفسه، لأن العدالة تقتضي أن يكون الجزاء بمقدار العمل، لذا فالثواب والعقاب لازمان بلزوم الإنصاف، وإلغاؤهما استغراق في الحيف، وحاشا لله أن لا يكون عادلا منصفاً.
قد يقول قائل إن الله قدّر لأناس أن يكونوا لجهنم استناداً الى قوله تعالى: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّم كَثِيرًا مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس” [الأعراف:119]، فكيف يعاقب الله أناسا قدر عليه استحقاق العذاب، وهل كان بإمكانهم الخروج على إرادة الله؟.
إن تقدير الله هنا هو من باب معرفة الأمر قبل حدوثه استنادا الى الربط بين السبب والمسبب، وليس من قبيل إصدار الحكم وتقرير النتيجة، وهو كمثل #المعلم الخبير بطلابه، قد يقول مسبقا ان فلانا سيكون من الأوائل وفلان سيكون من الراسبين، ومع انه يتمنى أن ينجح الجميع، إلا أنه لن يتدخل في النتيجة، لكن النتائج لن تكون مغايرة لتوقعاته.
وهنالك تطبيق على ذلك، وهم ما جاء في سورة المسد في حق أبي لهب:” سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ”، فقد كان بإمكان أبي لهب أن يتفلت من العقاب ويؤمن ويَحسُنُ إسلامُه، لكن القطع في صياغة الآية جاء بسبب معرفة الله تعالى بطبيعة أبي لهب وعنجهيته التي لن تدعه يسلم، وليست قسرا من الله وإجباراً على سلوك هذا المسلك.
ما يبعث على اطمئنان المرء أن الله رحمن، وهذه الرحمة شاملة لكل الناس، الطائع منهم والعاصي، فرحمته للطائع أنه يحسب أفعاله السيئة بمثلها، والحسنة بعشرة ويزيد، وأما رحمته للعاصي فهي أنه لا ييأس من عودته عن عناده، فهذا فرعون أرسل إليه موسى وهارون عليهما السلام:” فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى” [طه:44]، فلو كان قدّر على فرعون أن يكون من أهل النار مسبقا، فلماذا أرسلهما إليه مؤملا إياهما أنه قد يستجيب؟.
لذلك يُبقى الرحمن باب التوبة مفتوحا حتى الساعة الأخيرة من حياة من ظلم نفسه فحرمها من مغفرة الله، إذ أشرك أو كذب بالدين.
أما #المؤمنون فاطمئنانهم مضاعف، إذ ينالون رحمة أخرى وهي رحمة الرحيم، وهي مخصصة لعباده المؤمنين، وهي التي يأمل من لم تكن في موازينه ما يكفي من صالح الأعمال لإثقالها، أن يتداركه الله بعفوه، فينجو، لقوله صلى الله عليه وسلم: قَارِبُوا وَسَدِّدُوا ‏وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْتَ قَالَ وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ ‏ ‏يَتَغَمَّدَنِيَ ‏ ‏اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى