الخطاب الرسمي… حين يصبح الصمت أكثر بلاغة!

#الخطاب_الرسمي… حين يصبح #الصمت أكثر #بلاغة!

بقلم: د. محمد تركي بني سلامة

في الوقت الذي يواصل فيه العدوان الإسرائيلي جرائمه في غزة والضفة الغربية، ويستبيح سوريا ولبنان واليمن، ويطلق تصريحاته العدوانية ضد الأردن بوضوح فاضح، لا تزال خطابات كثير من المسؤولين، ومعها الخطاب الإعلامي الرسمي، تعيش في سبات عميق، وكأننا نتعامل مع أزمة بسيطة في نشرة اقتصادية لا مع مشروع استعماري يهدد وجودنا وهويتنا معاً. إسرائيل توسّع استيطانها، تهيئ الضفة الغربية للضم والتهجير، وتعيد رسم الخرائط على حساب الدم والذاكرة، بينما نحن نقابل كل هذا بلغة باهتة وكلمات معلبة تُشبه إعلانًا تجاريًا أكثر مما تُشبه خطاب دولة في لحظة خطر.

المشهد دم ونار وبارود، يقابله كلام مكرر بارد: “نستنكر، ندين، نرفض، نتابع”. هذه ليست سياسة، هذا إنشاء مدرسي ممل! أي وعي يمكن أن يُبنى على هذه الألحان المستهلكة؟ من يسمع بعض المسؤولين اليوم يظن أنهم يقرأون محاضر اجتماعات، لا أنهم يواجهون مشروعاً صهيونياً يهدد بتهجير ملايين وابتلاع وطن.

إسرائيل تفهم قواعد اللعبة جيدًا. هي تُتقن رواية القصة، وتوظيف الصورة، وتزييف الوعي لصالحها. تُصدّر نفسها للعالم كضحية محاصرة وسط “غابة من المتوحشين”، بينما نحن نكتفي بخطابات ثقيلة الظل، لا تقنع حتى أصحابها. العدو يبني سردية متماسكة، ونحن نبني جدارًا من الشعارات الفارغة التي لا توقف دبابة ولا تمنع مستوطناً من غرس خيمته في قلب الخليل.

لقد آن الأوان أن ندرك أن الحرب لم تعد تُخاض بالسلاح وحده. إنها حرب رواية، حرب وعي، حرب قدرة على إقناع الداخل والخارج معًا. لكننا ما زلنا نسمع بعض المسؤولين يكررون خطابات إنشائية أشبه بتمارين إلقاء في قاعة جامعية، بينما المعركة اليوم تُدار بالكلمة والصورة والهاشتاغ أكثر مما تُدار بالرصاص. أي عبث هذا؟ وأي استخفاف بوعي الناس؟

الجمهور لم يعد يثق بهذه اللغة الرسمية المكررة. الناس تريد خطاباً مختلفاً، صادقاً، جريئاً، يضع الإصبع على الجرح ويعترف بحجم الخطر. نحتاج إلى وجوه جديدة وأدوات جديدة، إلى من يتحدث بلسان الناس لا من يلقي عليهم الخطب وكأنهم جمهور في مسرحية قديمة. نحتاج إلى خطاب حيّ قادر على المواجهة، لا خطاب بيروقراطي ينتهي بمجرد انتهاء النشرة.

إسرائيل تمضي في مشروعها ساعة بساعة، والمجتمع الدولي لا يسمع إلا من يملك خطاباً مقنعاً مؤثراً. فهل يعقل أن نبقى أسرى بيانات الاستنكار وردود الفعل الضعيفة؟ هل يُعقل أن يكون ردّنا على عدوان بهذا الحجم مجرد كلمات فضفاضة لا تساوي الحبر الذي كُتبت به؟

إذا لم تستطع خطابات كثير من المسؤولين أن ترتقي إلى مستوى التحدي، فالصمت أشرف. لأن الصمت – في لحظة كهذه – أبلغ من هذا الضجيج الفارغ الذي يُشبه أصوات الطبول في معركة وهمية. الاستمرار في هذا النهج ليس سوى تجميل للهزيمة، وخيانة للوعي والذاكرة معًا.

لقد وصلنا إلى لحظة حاسمة: إمّا أن يتغير الخطاب الرسمي، بخطاب إعلامي وسياسي صريح جريء بحجم الخطر الداهم، أو نبقى مجرّد كومبارس في مسرحية تُكتب فصولها على أرضنا. فالأوطان لا يحميها الاستنكار الدبلوماسي ولا خطب المسؤولين المزخرفة. الأوطان تحميها المواقف الحقيقية، واللغة الصادقة، والإرادة التي تدرك أن المعركة اليوم معركة وعي بقدر ما هي معركة سلاح. وإلا فلنستعد لنسمع ذات العبارات المكررة حتى آخر قرية تُهدم وآخر مستوطنة تُزرع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى