غروب الحارات

مقال الإثنين 16-12-2109
غروب الحارات
اليوم في أصدق حالاته عند الفجر ووقت الغروب..عندما يخلع النهار “أفرهول” ضوئه ويرتدي تلوين السكون ، أو يخلع عباءة العتمة صباحاً ويرتدي وشاحاً برتقالياً عمالياً نسيته الشمس للتو فوق سجادة صلاتها..
**
كم يدهشني وجه الحواري بعد الغروب ، كم تجذبني تفاصيل البيوت ، وتوطئة الليل في سماء مدينتنا ، أحب أن أمشي سيراً على الأقدام في الشوارع المبتلة في الحارات الموحلة ، في البيوت التي لم تتغير، حتى صور المرشّحين منذ “المجلس الاستشاري” ما زالت تناشد السكان المؤازرة ..في الحواري أقرأ فصول الحكايات دون فذلكات الراوي أو تأنق الكاتب في دقة الوصف،فوضى المكان في حدّ ذاتها عظيمة ورائعة تضفي خصوصية فريدة ، للحواري عرق مثل عرق الإنسان ، هو بصمتها ، أغمض عيني وأشتم الرائحة وأعرف أين أنا…
يعجبني لوح الزجاج الذي لم يكسر منذ حرب الخليج قبل ثلاثين عاماً ، والدليل ذلك اللاصق البني الشفاف على واجهة الشباك الغربي ،حيث طالبنا الدفاع المدني ذات تحذير بإلصاق الشبابيك حتى لا يتطاير الزجاج علينا فيما لو خضنا حرباً أو سقط صاروخاً تائهاً في أحضان بلادنا…
يعجبني عَجل “البكم” المدحول في حوش الدار، وبطارية السيارة المعطوبة منذ سنوات خلف البوابة على أمل أن “العجل” له عازه ،و”البطارية” المعطوبة حوينة عليها…وتدهشني رائحة الكاز التي تتصاعد من صوبة “الفوجيكا” رغم أنه لم يبق في السوق “فوجيكا” ، لكن كل “صوبة حمراء” فهي فوجيكا…تأسرني ثرثرة النار في رأس الصوبة، كم يشبه ثرثرة النار في رأسي، أحاول أن أحلل الحوار بين اللهب و”الفتلة” ، الألسنة تقول شيئاً مهماً لكني لا أفهمه، أحياناً يحتد الحوار ويتفاعل النقاش ثم يهدأ…ليتني أفهم لغة النار والاحتراق ربما لعرفت موضوع الحديث…
في الحواري أطفال يعودون من البقالة القريبة ببعض الحلوى ، و”بكم” يريد أن يتخلص من ما بقي لديه من رؤوس الملفوف..هو يصر من خلال سماعته أنه “ملفوف بلدي”، والكل يعرف في قرارة نفسه أنه “افرنجي”..على أية حال لم يفلح ببيع أكثر من رأسين بالحلال أمام جامع الحارة ، فانطلق إلى حارات أكثر بؤساً…أحب أضوية اللمبات الصفراء في البيوت القديمة ، واللمبات ذات السلك الطويل في محلات “البناشر”، ونشارة الخشب في المناجر المتواضعة … وقت الغروب تدغدغ السماء أرض الحواري بنقاط المطر الأولى ، فنرى كيف يقمن الأمهات – بنفس التوقيت- بجمع الغسيل وطي فرشات الإسفنج المنشورة على “البلاكين” وإغلاق النوافذ بعصبية …
وقت الغروب أشكر من كل قلبي شركة الكهرباء التي تركت سلكاً كهربائياً فالتاً من أعلى العمود…يتأرجح مع الريح ويصدر صوت رنين ناعم مع عمود الكهرباء..وهناك في الدكانة الصغيرة المتواضعة يميل سدر الهريسة ويرتجف كلما اقتص المجحاف منه أكعاباً طازجة..في غروب الحارات..تموج شجرة الكينا العالية ، تصفّر لليل الجديد، تستقبل أضوية السيارات القاطمة ، وتخبئ أعشاش العصافير ولا تبوح بها مهما اشتدت الريح..
في غروب الحارات…أعيد إعراب عمري ، وأبني جمل الذاكرة من جديد بطوب اللهفة ..هناك ما زلت أشيّد حنيني!

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى