الحياة مدرسة

#الحياة_مدرسة

د. #هاشم_غرايبه

تقول الحكاية الرمزية، أنه كان لملك ثلاثة وزراء يديرون شؤون البلاد، ورأى يوما أن يمتحن إخلاصهم ويعرف طبيعتهم، فجاء بهم معا، وأعطى كلا منهم كيسا كبيرا، وطلب منهم أن يملؤوه بما يختارونه من ثمار حديقة القصر، على أن يقوم كل واحد منهم بذلك شخصياً، ومنعهم من استخدام أحد، وأمهلهم لذلك يوما كاملا.
أخذوا أكياسهم منذ الصباح وبدأوا بتنفيذ المهمة، اهتم الأول بانتقاء أفضل الثمار ولم يترك صنفا إلا وجمع منه أفضله حتى ملأ الكيس تماما.
أما الثاني فقد استسخف المهمة ولم يبذل أي جهد في انتقاء الثمار، بل جمع منها في ساعة ما كان في متناوله من الجيد والرديء، وقضى بقية النهار مستلقيا في ظل شجرة.
فيما الثالث قال لنفسه ماذا أراد الملك من هذه الثمار؟ لا شك أنه لن يتناولها ولن ينظر لما في الكيس، لذلك ملأه بالأعشاب وأوراق الأشجار، ووضع فوقها حبات من التفاح.
في المساء سلموا أكياسهم للملك، الذي أعاد كل كيس لصاحبه وقال للحراس احبسوا هؤلاء الثلاثة كل في غرفة لمدة شهر، ولا تقدموا لأي منهم طعاما إلا ما كان في كيسه.
فأما الأول فقد تدبر أمره ففرز الثمار، ووزعها على فترة الشهر وبدأ بالسريعة التلف، وكفته، فعاد الى عمله، وأما الثاني فقد تلف معظمها وبالكاد بقي على قيد الحياة لكنه خرج مهزولا مريضا فاستغني عن خدماته، وأما الثالث فقد مات قبل انقضاء الشهر.
مغزى هذه القصة هي مصداق للحديث الشريف: ” لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”.
بعد تقدم معارف الإنسان، اكتشف أن الدوافع لأي تصرف يتصرفه، يأتي بناء على محركين أساسيين، أحدهما قاهر لا يملك له دفعا ولا تبديلا، وهو أمر تتحكم به الفطرة الأساسية التي زود بها كل كائن حي، سماها الإنسان (الغريزة)، وعرف أنه فعل لا إرادي غير خاضع لتحكيم العقل، ولا لمؤثر خارجي، مرتبط بالحاجات الأساسية، وهي الحفاظ على البقاء، والحفاظ على النوع.
أما المحرك الثاني فهو المصلحة، وهو خاضع لإرادة الشخص وفق تقييم العقل، ولذلك فهو مختص بالإنسان، ويميزه عن باقي الكائنات الحية الأخرى، غير أنه مرتبط أساسا بالنوازع الفطرية الأساسية والمتفرعة من الأنانية وحب الذات، والتي هي لازمة لتحقيق دافع الحفاظ على البقاء، كما يتفرع منها محبة الأبناء والنسل التي هي لازمة لحاجة الحفاظ على النوع.
لذا فإن المحركين كليهما هما بالأساس لتحقيق نفع الفرد.
بعد تقدم الإنسان الى درجة أعلى، توصل الى إدراك الفارق الهائل بينه وبين الكائنات الأخرى، فتحول الى تركيم معارفه والبناء عليها، مما أسس ما عرف فيما بعد بالمنجز الحضاري، والذي كان من ضمنه محاولات فهم علة الوجود بعموميته، ورسالة الإنسان ودوره في ذلك.
من هنا بدأ بالتمييز بين أفعال الإنسان ذاته، فيعظم من تلك التي تؤثر إيجابيا في الموجودات، والتي تقدم النفع للآخرين وليس للذات فقط بعد أن اكتشف أنها هي الفارق الأساسي بين الإنسان وباقي الحيوانات.
كوّن ذلك منظومة خُلُقية سميت: الأخلاق الحميدة، أصبحت قيما تربوية من أجل تربية النشء الجديد عليها، بهدف صلاح المجتمع، ومجموع المبادئ التي رسختها في النفس دعيت: الضمير.
هكذا أصبح لدينا محرك ثالث يدفع المرء باتجاه السلوك العادل، الذي يوازن بين المصلحة الذاتية والمصلحة العامة.
لكن هذا المحرك ظل ضعيفا أمام الشهوات والمصلحة الذاتية، فعززه الخالق المدبر بمحرك رابع هو الدين ليعيد التوازن، وجعل الدافع فيه نحو فعل الخير مرتكزا على عنصرين: أحدهما ذاتي نابع من الإيمان بوجود خالق يراقب ويحاسب، وخارجي مبني على الترغيب بالمكافأة على سلوكات تنتج الخير للغير، والترهيب بالعقاب على أفعال الشر.
ولأن المحرك الرابع هو الأعظم تأثيرا، لذلك لم يلتفت الأشرار والطامعون إلا إليه، ولم يحاربوا سواه، فانتظم البشر في كل العصور، فسطاطين: أخياراً أوأشراراً.. بحسب موقفهم من الدين.
والوزراء الثلاثة يمثلون الطبيعة البشرية.
من كانوا من طبيعة الوزير الأول اتبعوا الدين وعاشوا متصالحين مع ذاتهم فطبقوا لمنهج الله.
والوزيرالثاني تمثل أغلب الناس الذين يميلون الى الراحة والتمتع بملذات الحياة ولا يلتفنون الى عواقب ذلك.
أما الوزير الثالث فهو يمثل الذين أذهبوا طيباتهم فما ربحت تجارتهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى