الحياة مدرسة / د. هاشم غرايبه

الحياة مدرسة

عندما عادت السيدة الى بيتها، لاحظت أن لصوصا دخلوه مغتنمين فرصة خلوه من قاطنية، تفقدته فوجدت أنهم كانوا يبحثون عما خف وزنه وغلا ثمنه، لم يأخذوا الكثير فلم تكن تحتفظ بنقود، ولم يكن لديها الكثير من الحلي الذهبية، فمعظمها حلي صغيرة كانت تهدى إليها من أعزاء في مناسبات شخصية، كانت تحتفظ بها في حقيبة الى جانب تذكارات عزيزة على نفسها، وجدت أنهم أخذوا الحقيبة بكل ما فيها، أحزنها ذلك، لكن أكثر ما آلمها ولم تستطع نسيانه الى اليوم، أن فيها ألبوم صور حفل زواجها.
يميل الإنسان الى تخليد لحظات السعادة في حياته، ربما لقلتها، ويتمسك بها كذكريات جميلة.
قبل اختراع آلة التصوير كان البعض يدوّن تلك الأحداث في دفتر مذكراته، يعود إليها بين الفينة والأخرى، لتعزّيه عن مصاعب الحاضر أحيانا، أو لتزوده بالأمل.
أصبح توثيق تلك الأحداث بالتصوير أجلى أثرا، فهي تعيد الى الذاكرة بدقة تلك اللحظة مهما تقادم عليها الزمن، كما أنها الوسيلة الأفضل من الحكاية والأصدق من الرواية، لكي تصل الى الآخرين.
هكذا باتت الصورة الشاهد الحي على الحدث، يُخلده المرء وينقله للأجيال المتعاقبة، لكنها لا تصلح للتأريخ، فالمرء لا يميل لتوثيق إلا ما يسره ويسعده، فلا يلتقط الصور في لحظات الحزن ولا حالات الضيق والكدر، وحتى لو كانت في أوقات محايدة، فهو يلتقط عدة لقطات يختار منها ما يراه الأجمل ويتلف تلك التي لا تعجبه مخافة أن يراها الغير.
المشكلة المزمنة هي في اختيار اللقطة، دائما ما يميل الشخص الى تحميل مسؤولية جمال الصورة الى الشخص الذي قام بتصويره، صحيح أن كل الناس مقتنعون أن آلة التصوير لا تزوّر ولا تبتدع شيئا من عندها، لكنهم يطلبون منها ما لا تقدر عليه… إظهارهم بصورة تعجبهم!.
ربما يعود شعور المرء بأن الصورة لا تمثله الى أنه اعتاد أن يعرف هيئته من المرآة، والتي دائما ما تريه المقطع ذاته من وجهه، فيبقى يدير وجهه يمنة ويسرة حتى يرى الصورة التي يحب أن يراها دائما واعتاد عليها، ويعتقد أن الآخرين لا يرون إلا هذه الصورة، لكنهم – ويا للحقيقة المؤلمة – يرونه من زوايا كثيرة، لا يمكنه أن يراها في المرآة، وإنما في صور التقطت له من غير انتباهه لها.
جميع الناس لا يحبون أن يروا عيوبهم الخَلقية، أو بعض الملامح غير الجميلة، وبالطبع يكرهون أن يراها الآخرون، وهم والقريبين منهم من فرط تعودهم عليها ينسونها، أو لا تعود ملفتة لنظرهم، لذلك تأتي الصورة اللعينة لتذكرهم بها كونها قد تكون التقطت من زاوية غير تلك التي يرونها دائما في المرآة، فيصبون جام غضبهم على ملتقط الصورة، فيتهمونه بقلة المهارة لكنهم لا يمكن أن يعترفوا له بالجزء الذي لم يعجبهم، لأن ذلك إشارة الى العيب الذي يحرصون على إخفائه عن الناس، ويتوهمون أن عدم ذكر الآخرين له هو أنه خافٍ عليهم، لكنه في الحقيقة بدافع المجاملة والنفاق الإجتماعي ليس إلا.
حديثاً، ومع تقدم التقنيات، بات (الفوتوشوب) قادرا على تعديل ما لا تقدر عليه عمليات التعديل ومساحيق التجميل، لكن في المقابل، فإن التصوير وبث الصور بتقنية (HD) أصبحت تكشف ما أخفته تلك المساحيق.
يحكى أن أحد الموظفين كان فنانا حاذقا للرسم، أراد أن يتقرب من مديره العام فقام برسم لوحة فنية لشخصه، كانت في غاية الإتقان، لكنه حين قدمها لمديره صدم حينما قال له: ما هذا الذي رسمته؟ إنك لا تفهم شيئا في الرسم، فعاد بها حزينا، قال له زميله: مشكلتك أن مهارتك في الرسم أظهرت كل بشاعته بدقة.
في اليوم التالي قام بالكثير من التعديلات التجميلية لدرجة أن الصورة ما عادت تشبه المدير، فالشفاه الغليظة اختفت لتحل محلها شفتان رقيقتان، وأرنبة الأنف التي كانت كحبة الجوز أصبحت مستدقة ناعمة، أما الخدان المترهلان فقد باتا مشدودين كخدود الموناليزا، كما اختفى رطل الشحم المتدلي تحت الذقن.
وفي هذه المرة حينما قدمها له تقبلها مسروراً، ومثنيا على عبقريته الفذة، وكافأه بسخاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى