
د . ثروت موسى الرواشده
هل شعرتَ بريحٍ هوجاءَ تختبئُ خلفَ جدرانِ روحِكَ وعقلكِ مقيداً بتفاصيلِ أحدهم وشعورِكَ مجبولاً باللذةِ والفجيعةِ.
هل أنتَ قلقاً لغيابِهِ للحدِّ الذي حلتْ بكَ لعنةُ أوديس؟
هل تحاولُ أن تنزعَ مخالبَ الفولاذِ التي غُرِسَتْ في صوتِكَ لغيابِهِ فلا من منقذٍ أو مجيبٍ؟
هل فهمتَ بأنك أسيرٌ، بينما هو حرٌ طليقٌ وتفتشُ كالنملةِ في كلِّ الثقوبِ لتسدَّ فراغَ الفوضى الإسفنجيةِ؟
هل قاومتَ بشراسةٍ تلكَ البقعةِ العمياءِ من كلِّ شيءٍ؟
كم جاهدتَ لتنزعَ ما هو قابِعٌ بصدرِكَ كالجاثومِ ولا سبيلَ للخلاصِ؟
هل تخليتَ عن كبريائكَ وخيالكَ متوسلاً كطفلٍ أضاعَ دميته؟
هل ارتشفتَ تعابيرَ وجههِ كفنجانِ قهوتكَ؟
وإن كنتَ لا تدري أنك تدورُ بحلقةٍ مفرغةٍ فاعلمْ بأنك متعلقٌ لا محالةَ.
ويأتي التعلق من الجذرِ العربيِّ (عُلِقَ) الذي يعني الارتباطَ أو التمسكَ بشيءٍ أو شخصٍ ما.
وفي اللغةِ العربيةِ (عَلِقَ) تشيرُ إلى التعلقِ أو الالتصاقِ بشيءٍ سواءً كان ماديًا أو معنويًا.
وفي القرآنِ الكريمِ المجيدِ لم تُذكرْ كلمةُ تعلقٍ بشكلٍ صريحٍ، لكن هناك آياتٌ كريمةٌ تشيرُ إليه وتتحدثُ عن الارتباطِ العاطفيِّ مثلَ آياتِ التعلقِ باللهِ وبالآخرينِ.
قالَ تعالى: (إياك نعبدُ وإياك نستعينُ)
وقالَ تعالى:(فاعلمْ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ واستغفرْ لذنبِكَ وللمؤمنينَ والمؤمناتِ)
وفي علمِ النفسِ، وضعَ الطبيبُ النفسيُّ
John Bowlby البريطانيُّ جون بولبي نظريةَ التعلقِ Attachment Theory ليحدثَ عن التعلقِ على أنه الرابطِ العاطفيِّ العميقِ المستمرِّ بينَ شخصٍ وآخرَ.
وتبدأُ هذه الرابطةُ بينَ الطفلِ ووالديهِ أو مقدمي الرعايةِ، وقد تمتدُّ إلى العلاقاتِ الاجتماعيةِ الأخرى.
وأوضحَ أنَّ هناك أنواعًا من التعلقِ وفقًا لمدى الأمانِ النفسيِّ الذي يشعرُ به الفردُ تجاهَ الآخرينِ، مثلَ:
التعلقِ الآمنِ: حيثُ يشعرُ الفردُ بالطمأنينةِ والراحةِ، ويثقُ في قدرةِ الآخرينَ على تلبيةِ احتياجاتهم.
التعلقِ المتشبثِ: حيثُ يعتمدُ الشخصُ بشكلٍ مفرطٍ على الآخرينِ للحصولِ على الدعمِ العاطفيِّ، وقد يشعرُ بالخوفِ من الهجرِ والرفضِ.
التعلقِ المنغلقِ: حيثُ يحاولُ الفردُ تجنبَ الآخرينِ والانفتاحَ العاطفيَّ، ويفضلُ الاستقلاليةَ.
التعلقِ المختلطِ: حيثُ يظهرُ الشخصُ مزيجًا من الأنماطِ السابقةِ ويشعرُ بالتناقضِ بينَ الرغبةِ في القربِ والتعلقِ من الرفضِ.
أما في علومِ الطاقةِ فيُذكرُ التعلقُ بطريقةٍ مختلفةٍ عن علمِ النفسِ، وينظرُ لهُ كنوعٍ من الارتباطِ العاطفيِّ أو الذهنيِّ الذي يشدُّ الشخصَ إلى شيءٍ معينٍ، ويؤثرُ على تدفقِ الطاقةِ في الجسدِ والعقلِ ويعتبرُ عائقًا مما يسببُ الاحتجازَ العاطفيَّ والروحيَّ.
أما رؤيتي للتعلقِ فهي أشبهُ بذلكَ القيدِ الذي لا ينكسرُ فكلما “هممتَ بكسره” أدمَتْ يداكَ لتدركَ أنك من أوثقتَ رباطكَ بنفسكِ وسجنتَ روحكَ الحرةَ بمشيئتكَ وتنازلتَ عن قوتكَ بمحضِ إرادتكَ، فكنتَ النزيلَ والسجانَ وعندَ إدراككَ بأنَّ الأشياءَ تمرُّ من حولكَ وخلالكَ محاولًا الهربَ منها توقظُكَ قوةُ سقوطكَ وسطوةُ من سلمتَه زمامَ فؤادكَ فأكلَ ما تبقى فيكَ من أملٍ كوجبةٍ شهيةٍ فيصبحُ الوجعُ متسيدًا متوسدًا كلَّ المشاهدِ .
فخطواتُكَ المتجمدةُ وروحُكَ التي تحبو لاستنشاقِ الطرقِ المؤديةِ للحياةِ وتلكَ النيرانُ المتأججةُ في الهشيمِ تركضُ منها محاولًا التقاطَ أنفاسِكَ لحسمِ النزاعِ بينَ ُقربكَ وبعدهِ، تعبكَ وراحتهِ، خوفكَ واطمئنانهِ لترمي خوذتكَ وتعودُ خائرَ القوى من حربٍ كنتَ المقاتلَ الوحيدَ فيها …فتجرُّ أقدامكَ كجريحٍ إلى قواعدكَ تلملمُ ما تبعثرَ فيكَ من زجاجٍ مهشمٍ تناجي الخلاصَ وكأنك كنتَ تسيرُ طوالَ الوقتِ على جسورٍ خشبيةٍ هشةٍ لم تحتويك لتعلمَ أنَّ كلَّ لقاءٍ وتلاقٍ بينَ روحينِ هو جزءٌ من نسيجِ هذا الوجودِ فلا تراهُ بعينيك ولكنك تستشعرهُ عند مصادفتهم ، فلا عشوائيةَ ولا عبثيةَ عند تغلغلِ روحٍ بداخلك، لتعودَ بعدَ أن تستفيقَ من وهمكَ المنشودِ لنفسكَ وذاتكَ الممنوحةِ لغيركَ، فتقدمُ الحبَّ والحنانَ والعطاءَ لها وتتركُ ما تتضورُ جوعاً فيلقونَ عليكَ الفتاتَ.
فتتماهى مع أنَّ العلاقاتِ ليست تعلقاً ولكنها حبًّا وليست تشبثاً ولكنها تناغماً وانسيابًا وليست بكاءً وعويلا ولكنها شعورٌ وانسجامٌ ،وعندما تستعيدُ بصيرتكَ تعلمُ أنَّ من يرافقك في رحلةِ الحياةِ يوقظُك بدلاً من أن يُوهمكَ، ويرشدُك بدلاً من أن يُربككَ، ويُحيي فيكَ الأملَ بدلاً من أن يُرهقكَ، فكأنه قدَرٌ مُرتبٌ بمهجتكَ وروحكَ قبلَ أن يُترجمَ لواقعكَ.