الترابط الإجتماعي في الإسلام / د. هاشم غرايبه

الترابط الإجتماعي في الإسلام
تشترك المجتمعات الإنسانية جميعها في اعتمادها العائلة كوحدة أساسية للهيكل التركيبي للمجتمع ، وليس الفرد ، ولا يشذ عن هذه القاعدة أي مجتمع ، فيما عدا محاولات وتجارب طبقت في مراحل معينة من التاريخ لكنها لم تعمر طويلا ، مثل محاولة ” اسبارطه ” بناء مجتمع قوي قوامه من المحاربين ، وتجربة الجيش الإنكشاري العثمانية ، والتجربة الشيوعية المثالية التي تعتبر جميع الأفراد في القرية التعاونية ( الكولخوز ) عائلة واحدة ، وتجربة هتلر في إنشاء جيل ألماني ذي مواصفات عالية .
بداية لا بد من توضيح مفهومي الأسرة والعائلة ، فالأسرة عرفها العرب قديما على أنها الأقارب الذكور للرجل من جهة أبيه ، والعائلة هي مجموعة الأفراد الذين يعيلهم الرجل .
أما علماء الإجتماع فقد اعتبروهما مفهوما واحدا : وهي الخلية الأساسية في المجتمع، تعكس ما يتصف به من حركية و من تماسك أو تفكك ؛ و من قوة أو ضعف ومن تقدم أو تخلف فالأسرة هي تلك التي تمد المجتمع بمختلف الفئات النشيطة فهي تؤثر فيه و تتأثر به فبصلاحها يصلح المجتمع و بفسادها يفسد .
حديثا ، ومع سيادة القيم الليبرالية وما صاحبها من نزعة التحرر من كافة المبادئ والقيم السائدة تاريخيا وخاصة تلك المستمدة من الدين ، نالت الدعوات التي كانت منبوذة والمتعلقة بمنح حقوق للمثليين والشواذ ، نالت تأييدا متزايدا ، واستغل أباطرة الرأسمالية تلك النزعة من أجل تفكيك المنظومة الأخلاقية ، التي كانت معيقة لجشعهم غير المحدود ، فظهرت منظمات غير حكومية تسعى لتفكيك الروابط الأسرية بدعوى منع العنف الأسري ، وعقدت مؤتمرات هدفت الى التقليل من دور الأم في الأسرة بحجة حقوق المرأة ، ثم وصل الأمر الى محاولة إلغاء مفهوم الأسرة مثلما جرى في مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994 ، حيث أقر مبدأ المساواة الكاملة بين الجنسين ( إلغاء الدور الأساسي لكل من الأب والأم ) بدعوى تمكين المرأة ، وذلك في المبادئ 2 ، 3 من الفصل الثاني ، كما أقرت حرية ممارسة الجنس خارج إطار الزوجية وأنواع الإقتران الأخرى غير الزواج في الفصل : 2 / 7 و 5 / 5 و 6 / 11 ، كما أقرت إجراءات بحجة تحديد النسل مثل توزيع وسائل منع الحمل ونشرها بين طلبة الجامعات وإنشاء أقسام خاصة بالإجهاض المأمون وبتكاليف زهيدة ، وذلك في : الفصل 3 / 13 ، 4 / الجزء 24 ، 7 / 31 .
أما أخطر ما جاء في وثائقه ، إدخال مبدأ تعدد أنماط الأسرة في عبارة :” لتدعيم الأسرة بشكل أفضل ، وتدعيم استقرارها مع الأخذ بعين الاعتبار تعدد أنماطها ” أي أن هنالك انماطا أخرى غير الأب والأم والأطفال وهي أسر المثليين والشواذ ! .
هذا هو ما وصلت إليه الحضارة الغربية في فهمها للوحدة البنائية الأساسية ( الأسرة ) ، فإين فهم الإسلام لها ؟
يرتكز الإسلام على مبدأ راسخ في إقامة مجتمع فاضل تربطه المحبة ، وتوثق روابطه المودة ، لذلك أولى جل عنايته لأحكام الأسرة ، وأن تكون مستقرة مترابطة مستمرة .
وتمثلت هذه العناية بأمرين : الأول أنه أورد كل أحكام الأسرة بنص قرآني صريح ، في الوقت الذي كانت كانت كثير من النصوص مثل أحكام الدين الأساسية ( كالعبادات مثلا ) ، مجملة أحيانا ومفصلة أحيانا أخرى بالسنة النبوية الشريفة ، مما يدل على أهمية هذا الموضوع ، ودقته ، بحيث لم تدع مجالا للإجتهاد البشري فيه .
الأمر الثاني ويتكامل مع الأول وهو أن أدق الأحكام المتعلقة بشؤون الأسرة وردت في النص القرآني وبتفصيل وإسهاب لا يدع شاردة ولا واردة إلا أحصاها ( لاحظ تفصيل أحكام الميراث مثالا )، وشملت كل الظروف والإحتمالات من الخطبة حتى الطلاق .
يتضح لنا بعد استعراض مقاصد تكوين الأسرة الصالحة في القرآن الكريم ، مدى الإهتمام بتكوين الأسرة وصلاحها وصيانتها وسعادتها ، كما يتضح لنا أهمية تكوين الأسرة ، لأن مبدأها قائم على التواد والتراحم والتكافل والإيثار ، وذلك هو ما يؤدي الى صلاح المجتمعات واستمرار الحياة الإنسانية .
إن ما يحدث الآن في بعض المجتمعات الغربية من تفتت الأسر والشذوذ والإنحرافات ، سببها اعطاء الأبناء الحرية الكاملة وحرمان الوالدين من رعايتهم ومراقبة سلوكاتهم ، كما أنها تحرم الوالدين من حقهم على أبنائهم في العناية بهم عند عجزهم ، ولا يمكن أن تحقق مؤسسات رعاية المسنين الحكومية الكرامة والسكينة التي يقدمها الأبناء ، ولن ترتقي القوانين في تلبية الإحتياجات العاطفية والنفسية ، الى مستوى ما تفعل تشريعات الدين ، التي تأمر بالإحسان الى الوالدين وذوي الأرحام ( العائلة الممتدة ) ، وتقرن ما بين شكر الله والشكر للوالدين .
في الخلاصة يتبين لنا مدى التفوق الهائل للدين على التشريعات الوضعية في تحقيق الترابط الإجتماعي ، والإرتقاء بالمجتمعات الإنسانية ، فالأسرة تبقى اللبنة الأساسية ، لأنها الوسيلة الأمثل لتوفير الاستقرار النفسي العاطفي للزوجين ، وتحصين الفروج ، وإشباع العواطف الإنسانية ، وتقوية وتوسيع شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس ( المصاهره ) ، وحفظ الأنساب ، وتدريب الشخص ذكرا وأنثى على تحمل المسئولية ، وخلق روح التعاون والتكامل وتقسيم الأدوار بين أفراد المجتمع ، وتكوين النشء الذين يكونون قوة لآبائهم عند الضعف وعونا عند الكبر.
وكل ما يتم خارج هذا المنهج لا يصلح المجتمعات ولن يرتقي بالأمم .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى