الترابط الإجتماعي / د. هاشم غرايبه

أعرف شخصا متزوجا من أوروبية ، علاقتهم مع أمها وأبيها ودودة الى أبعد الحدود ، فهم يتبادلون الزيارة بشكل متواصل ، وأكثر من مرة سنويا ، فيما قد لا يرى الجدّان ابنتهم الثانية المتزوجة من ابن بلدها أو أولادها وتقطن في نفس مدينتهم إلا ساعتين في عيد الميلاد . عندما مرض الجد مرض الموت ، سافرت العائلة الأردنية بجميع أفرادها ، وبقوا يعتنون به شهرا حتى موته ، ابنته الثانية حضرت فقط ساعة الوفاة ، ثم مكثت العائلة لتقيم بيت عزاء لم يحضره إلا بضعة أشخاص منهم ابنته الثانية ، ولم يعودوا الى الأردن إلا بعد أسبوع ليقيموا عزاء آخر في بيتهم . لا شك أن الوالدين الأجنبيين أحسا بالفارق بين العادات التي اكتسبتها ابنتهم من المجتمع المسلم الذي عاشت فيه ، والمجتمع الأوروبي الذي يتمثل في ابنتهم الثانية ، ورغم كل المفاهيم المغلوطة عن مجتمعنا والتصورات المسبقة عن تخلفنا ، إلا أنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن العلاقات الإنسانية الراقية التي تحكم مفاهيمنا وقيمنا المجتمعية هي أسمى بكثير من تقدمهم التقني والعلمي . يعتمد الإسلام على ترسيخ شبكة من العلاقات الرابطة لأفراد المجتمع ، أولها داخل الأسرة فجعل الترابط الأساس في العلاقة عموديا الجد – الإبن – الحفيد ، ولذلك ألغى رابطة التبني ، حتى تبقى رابطة الدم القوية عامل التحام السلسلة البنائية ، ولأجل ضمان تواصل الأجيال فقد أنشأ مجموعة من القيم الإجتماعية الراسخة والمنطلقة من قيم الإيمان والعقيدة ، مثل إلزام الأب بالإنفاق على الأولاد والزوجة حتى لو كانت مالكة لمصدر دخل ، وإلزام الأبناء فيما بعد بالإنفاق على الوالدين واجبا شرعيا وليس تفضلا ، كما والزامهم بحسن الرعاية والإحسان فيها إذا بلغ الوالدان من العمر ما يجعلهما عاجزين عن القيام بحاجاتهم الشخصية ، لذلك ليس هنالك في الإسلام دور رعاية للمسنين ، فلو لم يكن لهم أولاد لوجبت الرعاية على أبناء إخوانهم . ثاني العلاقات هي الأفقية ، وهي بين الأسر بعضها بعضا ، والتي تنشأ عن ثانوية رابطة الدم أي بين أبناء العمومة ، حيث تأتي هذه الرابطة مكملة لرابطة الدم العمودية ، إلى أن تتباعد الفروع بسبب تتالي الأجيال وتتجاوز الجد الخامس ،والصورة الثانية للعلاقة الأفقية هي المصاهرة ، والتي تتم عادة بين أسر متباعدة الأصول ، مما يشكل روابط جديدة لا تقل متانة عن رابطة الدم . ثالث هذه العلاقات هي الجوار ، وتتحقق بناء على التجاور في السكن ، وهذه الرابطة بدوافع التواد والتكافل والمصلحة المشتركة ، وتعوض في كثير من الأحيان رابطة الدم إن كانت بعيدة الشُّقة ، وقد توسع التشريع الإسلامي في تفصيل أحكام الجوار لما لذلك من أهمية في تمتين أسس التعاون داخل التجمعات السكانية ، ولا يتسع المقام لذكر تلك التشريعات . رابع هذه العلاقات هي الأخوة الإنسانية ، والتي يتحمل فيها المجتمع مسؤولية تضامنية عن رعاية من يحتاج للعون ، وهذا أمر يختص به المجتمع الإسلامي ، حيث أن المجتمعات الأخرى توكل هذه المهمة الى مؤسسات إنسانية متخصصة ، ولا يلزم الأفراد بتقديم العون ، وقد بلغت مسألة تخلي الشخص عن واجبه الإنساني في نجدة محتاج العون ، لدرجة أن المارة يرون شخصا جريحا ولا ينجدونه ، بل يتركون ذلك للجهة المخولة بالإسعاف بسبب أن القوانين لا تتيح لهم ذلك . التشريع الإسلامي شجع على تقديم العون الفردي إذ اعتبره من أعمال الخير يؤجر فاعله ، مثلما حضَّ على العون الجماعي ، وأن يهرع الجميع للواجب الإنساني ، بل أنه اعتبر التقصير في ذلك جرما يصيب وزره الجميع ” أيما أهل عرصة أصبح فيها امرؤ جائع برئت منهم ذمة الله ” ( حديث شريف ) ، والعرصة هي البقعة الفارغة بين الدور ، وبذلك تأكيد على حق حتى أولئك القاطنين في بقاع خالية من الجيران أن يهب الجميع لمساعدتهم . العلاقة الأخيرة هي التعاون مع المجتمعات الأخرى وعدم التقوقع أو الإنعزال ، وقد ورد ذلك في أمر من الله تعالى ” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ” ، وليس مثل المجتمعات الأخرى التي تتعاون على الإثم والعدوان بتشكيل التحالفات العسكرية مثل ” حلف الناتو ” الذي يضم منطقة جغرافية محددة بهدف مهاجمة المناطق الأخرى والتي لا تكون مصدر تهديد حقيقي عليها ، بدليل كل الحروب الحديثة في العالم والتي لم تكن فيها أية حالة عدوان على أوروبا أو أمريكا . إن تشريعات الإسلام تؤكد جميعها على ترابط المجتمعات وتعاون الجنس البشري ، بدءا من الأسرة الصغيرة وارتقاء حتى الأسرة البشرية كلها من غير أن تتوقف تلك العلاقة عند حد قطري أو عرقي أو قومي ” يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى