التحولات المجتمعية في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة

التحولات المجتمعية في عصر العولمة والتكنولوجيا الحديثة

محاضرة “الدكتور محمود الحموري” في ملتقى إربد الثقافي؛

(يشرفني نشر ملخص هذه المحاضرة التي أقيمت بملتقى إربد الثقافي بعد طلب العديد من الأصدقاء نشرها كاملة)
حيث قدم لها وادار الحوار الشيخ المهندس هشام التل،

مقدمة:-
كل شيء في حياتنا يتغير ويتحول، ولكن الإنسان هو الإنسان، فنحن في بلدنا، كما غيرنا، نعيش بين الثابت والمتحول، فالثابت هو السنن الكونية والقدر، مثل الولادة والزواج وانقضاء الأجل … وغيرها، والمتحول هو السلوك والعادات والجهد والاختراعات والإنتاج. وقد شهدنا في العقود الثلاثة الأخيرة تطور وسائل جديدة للتواصل وتطوير الخدمات بإستخدام الطاقة المتجددة والاشعاع، وفق الموجات الكهرومغناطيسية واطيافها الضوئية ما ساهم بشكل جلي في تقدم التواصل وإنتاج المعلومة وسرعة تبادلها واسترجاعها ونشرها والاستفادة منها والبناء عليها واستنساخها وتوظيفها، ما جعل لذلك الأثر الكبير في حياتنا نتيجة تفاعلنا مع مخرجاتها.
وقد اصبح للصور والفيديوهات والأفلام وتركيبها والفوتوشوب والتحكم بتقنياتها دور كبير في الاختلاط ما بين الحقيقة والخيال، الأمر الذي أصبح له بالغ الأثر سلوكياتنا ومشاعرنا، بعد أن أصبح الصغير يعلم الكبير وسائل عصره. وشاركت الأجهزة الذكية من الموبايلات الحديثة في تماثل استخدامها من قبل الطيف الإنساني في أغلب مواقعه على مساحة الكوكب وفي اجوائه الفضائية وبواطنه الأرضية، كما بحاره ومحيطاته. واستفادة شعوب ودول وشركات كبرى وصغرى من هذا الإنتاج التكنولوجي ووجهت قواها البشرية من أبنائها ومنتسبيها والمتميزون من ابناء غيرها بهذه القطاعات، ودعمتها الشركات العملاقة وميزانيات البحث العلمي للدول، حيث نمت وانتشرت لتشارك في ازدهار بلدانها ورفد اقتصادها ما ادى إلى تطوير مؤسساتها الخدمية والتعليمية، وزاد من الدخل القومي للدول كما الأفراد، الأمر الذي انعكس ايجابا على بلدانها بتجميل مدنها ودولها التي أصبحت محجا لعشاق الحياة الرغيدة.
أما في بلدنا الأردن العزيز وأغلب دولنا العربية فقد أصبحنا من مستخدمي تلك الوسائل الذكية، الذي تجمعت بجهاز الموبايل الحديث، الذي نحمله في جيوبنا، والذي يحتوي على جميع التقنيات والبرامج ذات القدرات الفائقة على حفظ المعلومة والتصوير والنشر واليوتيوب والواتس اب، والمسنجر والتويتر. مشبوكا مع محركات الإنترنت المجانية، وكل وسائل الاتصالات الحديثة والقديمة وكل ما يخطر على البال بجهاز واحد متعدد التقنيات في عالم التواصل.
وقد إمتدات خدمات تلك الأجهزة المحمولة كذلك، للعمل الأكاديمي كاعداد المحاضرات وعرض الجداول الرقمية والبحثية والرسومات البيانية مزدوجة مع أدوات العرض والاسترجاع والطباعة والمتابعة.
إلا أن الكثير من النشء وبعض كبار السن فينا قد اغراهم وربما اغوتهم تلك الأجهزة الذكية، بحيث أصبحت تستهلك معظم وقتهم وجهدهم ما نتج عنه تعطيل همتهم عن العمل شيبا وشبانا، نساءا ورجالا على السواء في التسلية وقضاء الوقت هدرا على مذبح المتعة الشخصية والمجاملات.
أما في المدارس والجامعات فقد عطل إستخدام تلك الأجهزة إبداعات الطلبة وشغلت تفكيرهم عن التميز، وأصبح لها دور عكسي في كشف الخصوصيات ونشرها ما نتج عنه في بعض الأحيان لاغتيال الشخصيات والتدليس والغش وتبديل الحقائق، مع انهيار واضح في القيم والثوابت، نتيجة مزجها بثقافات وسلوكيات هجينة بسبب تباين الرغائب والمصالح داخل البيت الواحد، حتى أصبح كبار السن يشعرون بالغربة في منازلهم بحضور ابنائهم واحفاده واسباطهم، الذين يتابعون موبايلاتهم لكل ما يصله ويرسله بجهازه المحمول الذي لا يفارقه حتى وهو يتناول الطعام او يقضي حاجته في بيت الأدب.

التغيرات والتحولات المجتمعية:-
١. لقد أصبح لسهولة تشكيل مجموعات او جروبات على الماسنجر والفيس بوك والواتس اب وغيرها ما له بالغ الأثر في ثقافة الجيل مما أدى إلى انحسار اهتمامه بالنشاطات المعرفية والبحثية والرياضة مع تدني واضح في تحمل مسؤوليته الأسرية والمجتمعية وغيرها، نتيجة انشغال كثير من النشء بإثارة العواطف المزيفة، علاوة ضيق الوقت المتاح للراحة والتعايش مع محيطه الإنساني والطبيعة.
٢. إن ظهور خدمات الصورة بكل تقنياتها وسهولة إرسالها واستقبالها وكذلك فيديوهات الأفلام بكل انواعها قد سيطرت على الجيل وفت في عضده ما أدى إلى انحسار الدور الدور التربوي للمدارس والجامعات وكذلك الأسرة.
٣. سهولة نشر الدعايات والدعوات الفردية والجماعية للمقاهي والنوادي الليلة والتجمعات المشبوهة وخاصة في عمان العاصمة، التي أصبح فيها ١٥٠ نادي ليلي، ٢٣ نادي منها مرخص، حسب تصريح محافظ عمان قبل ايام، بمعنى أن هنالك ١٢٧ نادي غير مرخص ؟
٤. ازدياد انتشار الجرأة والجراءة في عمان الجميلة وبعض المدن الأخرى أدى إلى ظهور الفجور العلني، وهذا مثبت بالصورة والأفلام القصيرة بالصوت والحركة، والكلمات الجارحة للحياء من قبل بائعات الهوى في شوارع عمان، وقد أصبح ظهورها مكمن للتندر حول قدرة القضاء والأمن على ضبطها !
٥. الدعوات لحفلات المثليين ونشر صور وفيديوهات احتفالاتهم تحت رعاية سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية السابقة، ممثلة للسيدة هيلاري كلينتون التي تترأس جمعياتهم في العالم، وأدت إلى حضور المئات ومشاركة العشرات من شبابنا وفتياتنا لحفلاتهم الخليعة في شوارع عمان، وتناقلتها كل أجهزة الموبايلات الحديثة داخل بلدنا وخارجه، وقد تندر العالم منا ونحن نعيش في أرض الحشر والرباط !
٦. التعدي على القيم والموروثات بسبب قلة الحياء مع ظهور نساء فاجرات يلطمن الشباب والسيدات المحافظات في فيديوهات فاضخة، وهن يترجلن من السيارات الفارهة في استعراض مقيت يفت في عضد المنظومة الأمنية والقضاء في تحدي واضح للدولة والقانون الذي لم يطالهن لغاية الآن.
٧. تنمر واضح لبعض أصحاب راس المال العابرين للحدود في التهريب وبيع الممنوعات في الأحياء الشعبية، والذي انتشر تعاطيها في أماكن عديدة …
٨. انخراط الكثير من الطلبة بالتركيز على استخدام الموبايلات باستعراض واضح وتفاخر وبهرجة في امتلاك الأجيال الجديدة باهضة الثمن في بلد محدود الموارد، ما أدى إلى زيادة في المصاريف وهدر المال، فزاد التمرد والتذمر والشكوى، وحصر أولياء الأمور في زوايا محصورة بين الضيق والحاجة والحرج …
٩. تدني اعداد المبدعين وأصحاب الأفكار من الطلبة، والاستعاضة عن الجهد والتمحيص والفهم بالدروس الخاصة عالية التكاليف، واللجوء لتجار المعرفة والمعلومة المرصودة لديهم للتعويض عن تخلفهم في كتابة تقاريرهم المنهجية، لتحل محلها التقارير المقولبة، التي يقدمونها لأساتذتهم كوسيلة لتجاوز محنتهم طلبا للنجاح بعيداً عن النهج العلمي السليم في الدراسة والبحث العلمي الحصيف، الأمر الذي أدى سحب الإعتراف من بعض مؤسساتنا من بعض دول الخليج العربي…

نعمة التكنولوجيا الحديثة:-
إن وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة نعمة عظيمة، إذا احسن استخدامها في تبادل المعلومات والتعليم الذاتي وهناك جامعات ومراكز تعليمية وبحثية تستخدم تلك الوسائل في التعليم عن بعد باستخدام ال E- Learning اي التعليم الإلكتروني، تقوم بكل ما تقوم به الجامعات بقاعاتها الصفية من التدريس والبحث والمراسلات وحل الإمتحانات والتحليل الرقمي والاحصائي بالازدواج مع مراكز متميزة ذات خطط رصينة على طريق الإبداع والنشر في مجلات علمية محكمة ومصنفة تتمتع بمصداقية عالية.
وقد أحسنت الوكيبيديا العالمية والويكيبيديا العربية المستخدمة لمحركات البحث العلمي والأدبي في هذا المجال.
وفي بلدنا تفوقت مؤسسات طلال ابوغزالة ومؤسسة شومان ومكتبتها وبعض المكتبات والمراكز الأخرى في رصد المعلومة وتبادلها وعرضها من خلال اليوتيوب، كما أحسنت بعض المراكز الطبية في نشر ثقافة إجراء العمليات الجراحية والمضاعفات الجانبية ان وجدت ومراحل الاستطابة ووصف الدواء وانتشار مراكز الرجيم والغذاء وغيرها، وتم نشر الثقافة والوعي في محفظات خاصة للكتب القديمة للأدب والرواية واستنساخها وتخزينها وتنزيلها كقراءة مجانية بواسطة محركات ال PDF ووضع كل ما يحتاجه القارئ مخزونا على فلاشات الذاكرة الإلكترونية، الأمر الذي اتاح للنشطاء من حمل مكتبة بحجم مكتبة جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية او جامعة اليرموك على فلاشته الخاصة الذي وصل الجديد منها إلى المئة جيجا بايت حالياً.

الهوية الثقافية والعولمة:-
يوجد الآن اكثر من ٦٥ الف شركة حاسوبية متعددة الجنسيات والاغراض في العالم، تزيد قيمتها الرأسمالية عن مجموع ميزانيات الدول النامية بما تملكه من ثروات وكنوز الأمر الذي جعلها تدير حركة الإقتصاد والمعرفة والإدارة وتساهم في وضع او فرض السياسات العلمية.
أما العولمة فهي الوسيلة التي تجعل من النظام الرأس مالي مقبولاً لدى سائر الشعوب واداة لاخضاع عقولهم ورغباتهم، وثقافة العولمة تؤدي إلى ما يلي:-
– سيطرة الثقافة الغربية التي تقودها التكنولوجيا الحديثة على ثقافات الدول والشعوب الأخرى بذريعة مواكبة الاتجاه العولمي ومسايرته.
– أيهام الدول والشعوب وخاصة الدول النامية بأن الحفاظ على الهوية يأتي من خلالها، واقناعهم بأن الدفاع عن الخصوصية لا يتم الا عن طريق الإمكانيات التي توفرها العولمة. وهنا قد نستطيع ألقول بأن الرفض المطلق للعولمة لن تمكن الدول والمجتمعات من تجنب مخاطره، كما أن القبول المطلق لها لن يمكننا من الإستفادة التامة منها.

أدوات مواجهة العولمة في مجتمعنا:-
– المحافظة على العقيدة والاخلاق
– إصلاح الأوضاع السياسية الداخلية
– تطوير سياسات التكامل العربي والاقليمي
– وضع خطط تنمية اقتصادية وإنشاء سوق عربية مشتركة
– العمل على تحديد وصياغة برامج لتحديد الثقافة العربية واغناء هويتها

مبررات مؤيدو العولمة:-
– اختصار المدى الزمني بين كل اختراع وآخر او كل ثورة تكنولوجية وصناعة وأخرى
– الإعتماد على نتائج العقل البشرى عن طريق احتفاظه بحصيلة الخبرة والمعرفة.
– مواكبة التطور الذي يستلزم الاستثمار في التنمية البشرية
– ضرورة إستخدام واستغلال الطاقات البديلة مثل طاقة الشمس وطاقة الرمال والهواء والاستمطار وتخزين الكهرباء بواسطة مجسات الطاقة الشمسية، واقتحام علوم الهندسة الوراثية وعلوم الخلايا الجذعية بواسطة التقنيات وبجهود العقول الواعدة.

مبررات معارضو العولمة:-
– قدرتها العالية على تغيير البنية الأساسية للتفكير ومستويات الحياة المختلفة
– اثرها في زيادة معدلات البطالة وانخفاض الأجور وتقليص دور الدولة
– الهيمنة الغربية على بقية العالم مع التهميش الواضح للدول الفقيرة والعمل على تفكيكها وامتلاك ثرواتها.

الخلاصة :-
ان نجاح اي بلد مثل بلدنا العزيز ويعتبر من الدول النظامية، يكمن بالحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية للامة، والدفاع عن خصوصيته مشروط بمدى دعم عملية الانخراط الواعي في عصر العلوم والتكنولوجيا الحديثة ووسائلها المتعددة، والسبيل إلى ذلك هو اعتماد الإمكانيات التي توفرها العولمة نفسها والمعنى هنا الجوانب الإيجابية منها.
وهنا يمكن لأحد ألقول؛ لست مجبرا أن أكون أمريكيا او فرنسيا او غير ذلك، ولكن يجب أن احافظ على هويتي وثقافتي وأخلاقي مع الإستفادة من الطفرة العلمية الناتجة عن العولمة، ويمكن تحقيقها والوصول إليها من خلال؛
١. صياغة استراتيجية عربية للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة، وإعادة النظر في المناهج الدراسية والجامعية على نحو يهدف إلى تأصيل الملامح الحضارية في الشخصية العربية لمواجهة تحولات عالم اليوم.
٢. التنسيق والتعاون بصورة متكاملة ما بين وزارت التربية والتعليم والتعليم العالي والثقافة والإعلام والعدل والشؤون والمقدسات الإسلامية وغيرها وذلك للحفاظ على الهوية العربية والإسلامية للأمة من المؤثرات السلبية.
٣. ضرورة إنتاج اعلام ناضج يبني الإنسان الأردني والعربي الواعي والقادر على الفعل والإنجاز والحوار والتلاقح مع الثقافات الأخرى ومصونا ضد اخطار العولمة.
٤. ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الفكر وان كانت تنبع من العدالة في توسيع الامكانيات والابداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه هي العامل الأساس في اغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها، وهنا يجب علينا أن نفهم ونشرح للناشئة من الأجيال بأنه لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح الباب أمام كل تعبير وفعل وفكر وممارسة، لكن الحرية المنظبطة بظوابط تناسب ديننا واعرافنا وتقاليدنا التي تضمنها الرقابة المؤطرة بحسن الإدارة وهي الأجدر والأجدى.
٥. التعرف على العولمة الثقافية والكشف عن موارد القوة والضعف فيها، ودراسة ايجبياتها وسلبياتها بدراسات علمية معمقة وفي الوقت نفسه التعرف على تلك الثقافات والعلوم الجديدة، بدون خسارة تعليمات ديننا الحنيف وتقاليدنا.

وفي النهاية، يمكن القول بأننا بحاجة إلى التحديث والعصرنة، اي الانخراط مع العصر التكنولوجي ووسائله كفاعلين مساهمين في الحضارة الإنسانية، وبذات الوقت نراعي حاجتنا إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي بفعل موجات الغزو الذي يقتحمنا او يمارس علينا بوسائل التكنولوجيا وتطبيقاتها الذي يسيء استخدامه البعض منا ومن أبنائنا …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى