البرلمان أداة بيد الحكومة أم أداة للرقابة عليها !

البرلمان أداة بيد الحكومة أم أداة للرقابة عليها !
الأستاذ الدكتور أنيس الخصاونة

تمثل السلطة التشريعية حسب أراء المفكرين والباحثين في العلوم السياسية أداة للرقابة على أعمال الحكومة. وقد أكد معظم المنظرين الأوائل أمثال أرسطو وابن خلدون ومونتسكيو وجاكوربيه وودرو ولسون والعلماء المحدثين أمثال جبرائيل ألموند وسدني فيربا وغيرهم أن السلطة المطلقة بيد شخص أو جهة أو حزب هي مفسدة مطلقة لا محالة. من هنا فقد اعتبر أن الفصل بين السلطات قضية جوهرية وضرورية للتأكد من عدم تمكن أي جهة سياسية من احتكار السلطة وممارسة الطغيان والفساد .إن توزع السلطة بين عدة جهات ممثلة بالبرلمان والحكومة والقضاء تكاد تكون صفة مميزة لمعظم الأنظمة الديمقراطية أو الأنظمة التي تسعى للوصول لممارسات تضمن الحريات والمساءلة والرقابة.
لعلنا نتساءل هنا عن مدى اتساق ممارسات كل من الحكومة والبرلمان وانسجامها مع الأفكار والمقاصد التي تضمنها الدستور الأردني وما انبثق عنه من منظومة قانونية ضخمة في شتى مناحي الحياة.تصريحات متعددة تصدر من رؤساء مجالس النواب والأعيان ومن رئيس الحكومة تؤكد جميعها على ما ورد في الدستور الأردني من ضرورة الفصل بين السلطات حتى يتاح لكل سلطة مراقبة السلطة الأخرى ومساءلتها.في الجانب النظري والدستوري تبدوا الأشياء جميلة ومنطقية ومنسجمة مع روح العقد الاجتماعي في الدولة ،ولكن الأمور على أرض الواقع تبدوا غير ذلك ،والأدلة والشواهد كثيرة ويلمسها أي متتبع لأداء البرلمان بغرفتيه النواب والأعيان ،وكذلك أداء الحكومة.فتركيبة مجلس الأعيان وطريقة اختياره لا تتيح له ممارسة رقابة فعالة على الحكومة حيث أن اسلوب التعيين ،وليس الانتخاب، تجعل من العضوية في مجلس الأعيان صديقة للحكومة ومؤازرة لها وتضعف من قدرة الأعيان على نقد حكومة تم تشكيلها أو اختيارها من قبل الملك ،وتمارس مهامها وواجباتها باسمه، وهي ذات الجهة التي تختار أعضاء مجلس الأعيان. ولا يخفى على أي متابع لعمل وأداء مجلس الأعيان أن أداءه أكثر تناغما مع الحكومة وصوته مخفضا،أو ليس عاليا على الأقل، وقلما تتعرض الحكومة لأوقات صعبة ومساءلة عسيرة في مجلس الأعيان مقارنة بمجلس النواب المنتخب.
مجلس النواب هو الجهة التي من المفروض أن تكون أكثر تأهيلا وفعالية في الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية لكون أعضاء هذا المجلس منتخبين مباشرة من الشعب ويحظوا بتمثيلهم لإرادة المواطنين في قواعدهم .وجود النواب في البرلمان وشرعيتهم لا تستند لوظائفهم السابقة أو لولاءاتهم السياسية أو لنفوذهم في أعماق الدولة وأعمدتها، ولكن هذا الوجود منبثق من شرعية جماهيرية وبالتالي فإنه من المتوقع أن نقدهم للحكومة أكثر، وشجاعتهم في طرح الموضوعات والمساءلة والرقابة أكبر.
يا ترى لماذا يلاحظ بعض الموطنين أن دور البرلمان ،وتحديدا مجلس النواب، في ممارسة الرقابة ضعيف لدرجة يشعر البعض أنه يتم تطويع هذا المجلس ليكون أداة بيد الحكومة بدلا من أن يكون أداة للرقابة عليها؟لماذا يصاب المرء بالصدمة والامتعاض وهو يشاهد النواب يتراكضون ويتزاحمون ليصافحوا رئيس الوزراء أو حتى الوزراء سواء تحت القبة أو حتى في المناسبات الاجتماعية؟لماذا يشعر النواب أنهم أقل درجة ومنزلة وموقعا من الوزراء مع أنهم يمثلون الجهة التي تراقب الحكومة وبيدها حجب الثقة عنها وبالتالي حلها ،وبيدها رفض الموازنة وبيدها عدم الموافقة على اتفاقية الغاز وغيرها من الاتفاقيات؟
حكومة الدكتور الرزاز وأي حكومة أخرى تشعر بالارتياح العميق في التعامل مع البرلمان وخصوصا مجلس الأعيان فهم يمثلون مجلس الملك وفقا للدستور، ومعارضتهم للحكومة ليست شرسة، ورقابتهم لينة ،وملاحظاتهم ليست أساسية على مشاريع القوانين.أما ارتياح الحكومات للتعامل مع النواب فمردة تركيبة المجلس، والخلل في قانون الانتخاب الذي أفرز هؤلاء النواب، بحيث لا يوجد أي روابط سياسية أو تنظيمية أو حزبية تجمعهم ،ناهيك عن قانون الأحزاب الذي لا يمكن أن يعزز حياة حزبية نشطة، ولا ينمي ميولا لدى الأردنيين للانضمام للأحزاب.وعليه فلا غرابة أن نجد مجلس نواب غير قادر على حجب الثقة لا عن الحكومة ولا عن شخص وزير واحد ،ولا غرابة أن نجد أن جميع الموازنات يتم إقرارها رغم الكلام القاسي والنقد اللاذع تحت القبة وأمام الكاميرات،ولا غرابة أن يلهث النواب ويتزاحموا للسلام على رئيس الحكومة أو أحد وزرائها ،ولا غرابة أن يلعب بعض النواب أدوار حكومية وأحيانا يتلقون التعليمات والألو من جهات حكومية حسب تصريحات بعضهم المعلنة.نعم لا غرابة بأن تنعكس الأدوار ليصبح المراقب (بكسر القاف) على الحكومة أداة بيد الحكومة تمكنها من السيطرة والتوجيه للسلطة التشريعية!
لا يمكن للفصل بين السلطات كما أراده المنظرين الأوائل ومشرعين الدستور أن يؤتي أكله ويحقق مقاصده وأهدافه إلا إذا انخرطنا في إصلاحات سياسية عميقة تتيح ممارسة هذا الفصل وجعله واقعا على الأرض. الفصل بين السلطات لا يحدث لمجرد كتابته في الدستور ،لكونه يحتاج إلى أدوات وجملة من القوانين لتفعيل الأحزاب وتشجيعها وقوانين انتخاب حقيقية لا تستعدي الأحزاب،لا بل تجد فيها حواضن للديمقراطية ،ومنصات وأكاديميات تدريب على الثقافة الحزبية والحوار والمشاركة السياسية الحقة .بلدنا رغم التقدم الملموس الذي حققه في العقود الماضية فإنه يستحق مزيدا من الإصلاح السياسي الذي يضمن للمجتمع سلامه وانسجامه واستقراره.نعتقد بأن النظام السياسي الأردني قادر على التعامل مع الإصلاح وقيادته بشجاعة خصوصا وأن هذا الإصلاح هو مطلب ومقصد للقيادة تم التصريح به في مناسبات عديدة.نعم الإصلاح ضروري لنتمكن من تجاوز الأزمات والتحديات ونعيد توزيع السلطات والأدوار بين البرلمان والحكومة والقضاء فهل من مجيب…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى