
الايجاز في #قصة_آدم والقياس على قصتي #نوح و #موسى عليهما السلام : محاولة لفهم الرأي الاخر في #نظرية_التطور.
يلاحظ المتأمل في أسلوب القرآن الكريم أن عرض الأحداث لا يلتزم التسلسل الزمني ولا حجم الوقائع، بل يتغيّر بحسب المقصود من السورة والغاية من الذكر. فالله تعالى قد يختصر قصة طويلة في آيات معدودة إذا كان المقصود بيان العبرة، ويُفصلها في مواضع أخرى حين تقتضي الحكمة ذلك.
ففي سورة القمر، مثلًا، تُعرض قصة نوح عليه السلام في سياق سريع متتابع، حتى ليخيّل للقارئ أن القصة بتمامها وقعت في يوم أو بعض يوم. قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (17)
ليس اكثر من ثلاث ايات قصيرات ، من التكذيب فالدعوة عليهم فالعذاب. اما الباقي فتفاصيل عذاب المكذبين ونجاة المصدقين. مع ما توحيه فاء العطف من تتابع وسرعة. ولولا أن القصة وردت مفصلة في سور أخرى، لما علمنا أنها امتدت في الحقيقة عبر قرون طويلة من الدعوة والمعاناة إلى صنع السفينة إلى غرق فئة ونجاة أخرى .
وكذلك الأمر في قصة موسى عليه السلام في سورة الدخان؛ فقد جاءت في عرض موجز يجمع بين الدعوة والإنذار والخروج وغرق فرعون في نسق واحد متتابع، حتى ليبدو للقارئ أن الأحداث جرت في ليلة واحدة. وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ(24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29). وأنظر ما تركية فاء العطف هنا كذلك من تتابع وتسارع.
غير أن السور الأخرى تُظهر أن دعوة موسى لم تكن حادثة عابرة، بل استغرقت سنين طويلة من المواجهة مع فرعون وملئه.
انطلاقًا من هذا الاسلوب القراني المبين ، فلماذا نتسرع بتكفير من يرى أن نظرية التطور لا تتنافى مع قصة خلق آدم كما وردت في القران الكريم. ولا يستبعدون أن يكون الأسلوب نفسه قد جرى في قصة ادم ايضا. فهم يرون انها ذُكرت في مواضعها في القرآن بتركيز شديد، تبدو وكأنها وقعت في ساعة واحدة: خلقٌ، فسجودٌ، فامتناع إبليس، فهبوط إلى الأرض. ولا نجد في أي سورة تفصيلًا زمنيًا أو وصفيًا يُبين مقدار ما استغرقه هذا الخلق أو مراحله. وهم يعزون سبب تفصيل قصتي نوح وموسى في مواطن اخرى كثيرة، بينما ظلت قصة آدم موجزة بأن التفاصيل في قصتي نوح وموسى تعلقت بأحداث إنسانية معقولة يدركها العقل، أما ما يتصل بخلق آدم وبدايات الوجود الإنساني فهو أعمق من أن يُعرض في صورة تفصيلية يمكن للعقول آنذاك أن تستوعبها أو تتعامل معها دون إشكال. وقد يكون في ذكر المراحل الدقيقة لخلق الإنسان أو في بيان تطوره ما لا تتهيأ له عقول المخاطبين في ذلك الزمن. فاقتصر البيان القرآني على ما تتحقق به العبرة دون الدخول في ما يشوش الفهم أو يصرفه عن الغاية.
وسواء اتفقت مع هذا المنطق او رفضته فلا يجوز لك أن تتهم من توصّل اليه بالكفر او الفسق . فمسألة عدم تطابق ظاهر النصوص مع ما ندركه من واقع الكون ليست جديدة في الفكر الإسلامي؛ فقد واجه المسلمون الأوائل قضايا أعظم تعقيدًا، ومع ذلك قبلوا بها وأحسنوا التوفيق بينها. أدركوا أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وفوق المكان والزمان، ثم قبلوا في الوقت نفسه النصوص التي تتضمن النزول والاستواء على العرش مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقين. وآمنوا بالقضاء والقدر وأن كل شيء مكتوب قبل خلق السماوات والارض ، ثم قبلوا مع ذلك أن الإنسان مسؤول عن عمله وأنه سيحاسب عليه. في اشكالية مازالت تبلبل عقول الكثيرين.
يقول هؤلاء المتأملون ان هذه المسائل الكبرى، بما فيها من ظواهر التعارض، تعامل معها المسلمون الاوائل بمنهج عبقري يجعل عدم الفهم مفهومًا؛ أي أنهم قبلوا أن هناك مستوى من الغيب يتجاوز قدرة العقل، دون أن يمس ذلك جوهر الإيمان. ومن ثمّ يستنتجون ان ما يتصل بقصة آدم، وما قد يبدو من تداخل بين ظاهر النص وبين ما يطرحه العلماء عن تطور الحياة، ليس أعسر من تلك القضايا التي قبلها المؤمنون عبر القرون.
لقد كفَّر كثير من العلماء في الماضي والحاضر من قال ان الارض كروية بينما وجد اخرون ان اللفظ القرآني يتسع لذلك. وكفَّر اخرون من قال ان الارض هي التي تتحرك وان الشمس هي الثابتة بالنسبة للأرض ووجد اخرون ان بلاغة القرآن الكريم تحتمل ذلك. بل لم تعد كروية الارض ودورانها حول الشمس قضية يختلف عليها العقلاء. فكم عانى من قال بكروية الارض ومن قال بدورانها حول الشمس في عهود الجمود الفكري ، فكيف ندع ذلك يحدث الان في قضايا اخرى اقل تعقيدا من كل ما سبق.
كم سيعيد هذا التقبل والتفهم إلى ساحة الإسلام من خيرناهم بين الاسلام او رفض نظرية التطور.
هذه محاولة مني لعرض الرأي الاخر وتفهمه وعدم رمي أصحابه بالكفر ، وان القرآن الكريم يتسع لاختلاف الفهوم. والله أعلم وأحكم.

