
الاستخفاف بعقول #الشعوب، خيانة باسم الخلاص, #شعوب #محاصرة بين #الزيف و #الحقيقة.
بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد
في زمنٍ تتكاثر فيه الشعارات، وتُروَّج فيه الخطب الرنانة كأنها بدائل عن العمل والفعل الحقيقي، لم تعد الشعوب تُواجه فقط الاستعمار الخارجي أو الاستبداد الداخلي. ما تواجهه اليوم أخطر وأعمق: إنه الاستخفاف الممنهج بعقول الناس، ومحاولة إعادة تشكيل وعيهم بما يخدم مصالح قوى تُجيد التخفّي خلف الأقنعة الوطنية والدينية والثقافية.
لقد تحوّلت الساحة السياسية في كثير من البلدان إلى مسرحٍ يُدار من خلف الستار. القادة لم يعودوا دومًا نتاج نضالٍ شعبي أو وطني، بل أصبح كثير منهم “صناعة” دقيقة، تُنتَج في أروقة أجهزة استخبارات، وتُلمّع في أستوديوهات إعلامية، وتُسوَّق باعتبارهم المخلّصين. هؤلاء لا يأتون بدبابات، بل على صهوة شعارات الهوية والدين، ويتحدثون بلسان الوطنية والانتماء و ثقافة الشعوب الذين يطربون لما يسوق لهم، لكنهم، في حقيقتهم، امتداد ناعم لمشاريع الهيمنة الحديثة، التي تسعى إلى تفكيك المجتمعات لا إلى تحريرها.
التحكم بالعقول بدل السيطرة على الأرض
لم يعد الاحتلال بحاجة إلى جيوش تقليدية. يكفي أن يُعاد تشكيل الوعي الجمعي، وتوجيهه نحو معارك وهمية، حتى تنشغل الشعوب بذاتها، ويضيع السؤال الحقيقي: “من ينهب أوطاننا؟”. لقد أدركت القوى الفاعلة في هذا المشهد أن تفتيت الشعوب أسهل حين يتم من الداخل، حين يُعاد تعريف الهويات بطريقة ضيّقة، تُحوّل التنوع إلى انقسام، والاختلاف إلى تهديد.
الدين، في هذا السياق، لم يُوظَّف للهداية، بل أُعيد تشكيله كأداة سياسية. الطائفة لم تُحترم كتعبير عن تنوّع صحي، بل استُخدمت كذريعة لتقسيم المجتمع. والثقافة، بدل أن تُشكّل وعيًا وطنيًا جامعًا، حُوّلت إلى أدوات استهلاك رمزية تُستَثمر لتخدير الناس، لا لإيقاظهم.
أبطال مُفترضون، ومشاريع مفروضة
ومن المفارقات المؤلمة، أن من يتصدّرون المشهد اليوم، هم أنفسهم من يُفاخرون بأنهم “المحرّرون” و”رموز النضال”. يزعمون أنهم من أسقطوا الديكتاتور، وهزموا أدواته، ويقدّمون أنفسهم باعتبارهم الأحق بالسلطة والقيادة.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، أن كثيرًا منهم لم يكونوا في قلب المعركة، ولم يخرجوا من رحم المعاناة، بل جرى تصنيعهم بعناية في دوائر الاستخبارات، ثم أُطلقوا في المشهد بتنفيذ محكم لأجندات تلك الدوائر. لم تكن تحركاتهم نتاجًا لإرادة شعبية، بل ثمرة توافقات فوقية، لا ترى في الشعوب إلا أدوات طيعة أو عقبات يجب ترويضها أو سحقها, كفى تبجحًا واحتكارًا للبطولة. النضال لا يُمنح بمرسوم خارجي، ولا يُقاس بكمّ الخطابات، بل يُصنع بالصبر والتضحية والالتحام مع الناس. الشعوب، وإن صمتت مؤقتًا، فهي تدرك الفرق بين من ناضل من أجلها، ومن استُخدم باسمها.
سياسة التفكيك باسم الهوية
إن أخطر ما يُمارَس اليوم على الشعوب ليس القمع الظاهر، بل ذلك التلاعب الخفي بوعيها، عبر أدوات تتزين بلباس المنقذين، بينما هي تحمل بذور الانقسام والتفكيك. تُعزَف الأناشيد على أوتار الهوية الفرعية لا لتعزيز الانتماء، بل لتفتيت الانتماء الأكبر, ها هو الدين يُستَغل لا للهداية، بل كرافعة سياسية لتبرير ما يقوم به من يطلق عليهم المحررين، من خلال فرض الوصاية و املاءاتهم الدينية و العقائدية إضافة شرعنه الاستبعاد لمكونات مجتمعية على حساب مكونات تتغنى بانهم الأكثرية حتى لو كانوا لا يفقهون شيئا” عن الوطن و المجتمع فها الطائفة تستثمر لا كتنوع ثقافي، بل كأداة لتفكيك المجتمع إلى معسكرات متناحرة. تُوظّف الثقافة المجتمعية لا كحامل للقيم والذاكرة، بل كقالبٍ يُفرض على الوعي الجماعي، فيتحوّل إلى أداة للجمود والانغلاق.
إعلامٌ يُصفّق، ووعيٌ يُخدَر
وفي خضم كل هذا، نجد الإعلام يُصفّق، والمثقفين – إلا من رحم ربي – يُبرّرون، والبسطاء يُستَغلّون، ويُقال لهم إنهم يدافعون عن دينهم وهويتهم و وطنهم، بينما هم يُدفعون للوقوف ضد وحدتهم، وضد مصالحهم، وضد مستقبل أوطانهم.
وهنا تتجلى الخيانة الأخطر حين يُستَغل الإيمان لخدمة الاستبداد و تدمير الأوطان، وتُختزل الطائفة في خطاب الكراهية، وتُحوَّل الثقافة إلى شعارات جوفاء لا تصون وطنًا، بل تُفرّغه من جوهره.
فجر الحقيقة لا يموت
لكن الحقيقة، وإن طال حجبها، لا تموت. والوعي، وإن أُريد له أن يتخدّر، لا يغيب إلى الأبد. الشعوب قد تُخدع لبعض الوقت، لكنها لا تُخدع إلى الأبد, وحين تستفيق، وتدرك أن أعداءها الحقيقيين ليسوا المختلفين عنها في الطائفة أو اللون أو اللغة، بل أولئك الذين باعوا وحدتها مقابل سلطة، وسخّروا معاناتها لمصالح مشاريع خارجية، فإنها ستعيد تعريف البطولة كما ينبغي: لا باعتبار من رُفع على الأكتاف، بل بمن حمل همّ الوطن، وصان كرامته، ورفض أن يكون أداة في يد الغير.
إن ما نعيشه اليوم هو صراع على الوعي، لا على السلطة فحسب. ومن يستخف بعقول الناس، ويُضلّلهم بشعارات فارغة، ويراهن على انقسامهم، يرتكب جريمة بحق الحاضر والمستقبل, فجر الحقيقة آتٍ، حين تصرخ الشعوب “كفى”, كفى خداعًا، كفى استغلالًا، كفى متاجرةً بالهوية والدين والثقافة, وحينها، لن تصمد أقنعة، ولن يُخدع شعب مرّتين.
الحقيقة لن تُمحيها الأقنعة و الذقون الطويلة و الأصولية المنافقة، والوعي، وإن تأخر، لا يموت. الشعوب، مهما خُدعت، لا تُخدع إلى الأبد. والتاريخ، مهما كُتِب بالكذب، لا يرحم من خان، ولا يكرّم من تواطأ.
إن الاستخفاف بعقول الناس، واستغلالهم لهويّاتهم، ليس مجرد خطأ سياسي، بل جريمة أخلاقية، وخيانة اجتماعية، وسقوط وطني، لا يُغتفر. ولكن فجر الحقيقة آتٍ لتكتشف الشعوب ان المحرر و المخلص ما هو الا سليل دوائر الاستخبارات العالمية و ان ما يقوم به ما هو الا تمثيل متقن يحاكي به مشاعر الشعوب التواقة الى التحرر، فحينما تصرخ الشعوب كفى. حينها لن يصمد زيف, سوف يرمى بالمحرر المخادع في مزابل التاريخ و لكن نرجوا ان لا يكون الوطن قد دمر فكفاه تدميرا”