
#الاستثمار… #ممر_الأردن نحو #التحديث
الأستاذ الدكتور #أمجد_الفاهوم
يقف الأردن اليوم على مفترق اقتصادي حساس، حيث تُظهِر الأرقام بوضوح حجم التحديات القائمة. فقد بلغت نسبة البطالة 21.3% في الربع الثاني من عام 2025، وارتفعت بين النساء إلى 32.8%، في ظل موارد طبيعية محدودة وديون عامة متزايدة تُثقل كاهل الموازنة. وعليه، فإن هذه المعادلة الضاغطة تجعل من الاستثمار ليس خيارًا إضافيًا، بل ضرورة وطنية لا يمكن تجاهلها. لم يعد الاقتصاد يحتمل المزيد من التباطؤ، ولم يعد المجتمع قادرًا على تحمّل تصاعد البطالة والفقر.
ورغم أن الاستثمار يواجه عقبات مألوفة، مثل البيروقراطية المتجذّرة، والتشريعات المتقلبة، والبنية التحتية اللوجستية المحدودة، وتكاليف الطاقة والنقل المرتفعة، فإن هذه التحديات ليست قدرًا محتومً. بل يمكن تحويلها إلى فرص إذا ما أُديرت بعقلية جديدة ورؤية تتجاوز حدود الروتين نحو إصلاح حقيقي.
وتبدأ أي نهضة استثمارية حقيقية من الإنسان. فالأردن يمتلك طاقات شبابية متعلمة، لكنها تواجه فجوة في المهارات تحدّ من اندماجها في سوق العمل. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف دور الجامعات والمعاهد، لتصبح منصات لإعداد الكفاءات المرتبطة مباشرة بالاقتصاد المحلي والإقليمي. فالتدريب العملي المأجور، والحاضنات الجامعية، والمشاريع التطبيقية بالشراكة مع القطاع الخاص، لم تعد رفاهية، بل ضرورة لتجسير الفجوة بين التعليم وسوق العمل. عندها يتحوّل الخريج من باحث عن فرصة إلى صانع لها، ويتحوّل الشباب من عبء على الموازنة إلى محرّك فعلي للنمو.
أما الموارد الطبيعية المحدودة، فليست نقطة ضعف، بل فرصة للابتكار. ففي قطاع المياه، يشكّل مشروع الناقل الوطني لتحلية مياه العقبة ونقلها إلى عمّان تحولًا نوعيًا، لا لمعالجة أزمة مائية فحسب، بل لجذب استثمارات صناعية وزراعية تقوم على أمن مائي مستدام. وفي قطاع الطاقة، حيث تشكّل المصادر المتجددة ما يقارب 27% من إنتاج الكهرباء، يمكن للأردن أن يرسّخ مكانته كمنصة إقليمية للطاقة النظيفة، إذا ما اعتمد اتفاقيات شراء طويلة الأجل تُخفّف من مخاطر المستثمر وتزيد من جاذبية المشاريع الصناعية. وفي المستقبل، سيكون من الضروري التوسّع في دراسة هذه الفرص بشكل أعمق.
وفي ما يخص التحويلات المالية، فإن أكثر من 3.6 مليار دولار تتدفق سنويًا من الأردنيين المغتربين، أي ما يعادل 9% من الناتج المحلي، لكنها غالبًا ما تُنفق في الاستهلاك قصير الأجل. وهذا يتطلّب إجراءات حكومية حقيقية لتعزيز الثقة بأن الاقتصاد الوطني قائم على خطط طويلة الأجل ومستدامة، مما يشجّع على توجيه هذه الأموال نحو الاستثمار. المطلوب هو إطلاق أدوات تمويل مبتكرة، مثل السندات الاستثمارية للمغتربين، والصناديق الوطنية ذات العوائد الشفافة، لتحويل هذه التحويلات إلى رافعة تنموية يشارك من خلالها الأردنيون في الخارج في بناء مستقبل وطنهم، لا في تمويل استهلاكه فقط.
ويبقى الإصلاح الإداري عنصرًا محوريًا، إذ لا يمكن الحديث عن جذب استثمارات حقيقية بينما يظل المستثمر عالقًا بين الإجراءات الورقية والمكاتب المتعددة. فالحل يكمن في رقمنة شاملة للإجراءات، من خلال منصة موحدة تختصر الوقت، وتعيد الثقة، وتفرض معايير خدمة واضحة وملزمة. عندها فقط يشعر المستثمر أن بيئة الأعمال في الأردن ليست مجرد شعارات، بل تجربة عملية مبنية على الشفافية والكفاءة.
وتجارب الدول المجاورة تثبت أن النجاح ممكن. فالمغرب جذبت استثمارات كبرى بفضل مشروع “نور” للطاقة الشمسية، وحوّلت مصر منطقة قناة السويس إلى منصة صناعية ولوجستية عالمية. أما السعودية، فسلكت من خلال “رؤية 2030” طريق المشاريع العملاقة التي جعلتها مركزًا إقليميًا جاذبًا، بينما رسّخت الإمارات مكانتها كوجهة استثمارية رائدة بفضل بنيتها التشريعية والرقمية المتطورة. هذه النماذج تُظهر أن الإرادة السياسية والجرأة في الإصلاح كفيلتان بتحويل التحديات إلى نقاط قوة.
ومن هنا، فإن الدروس المستفادة من هذه التجارب تؤكد أن الاستثمار في الأردن لم يعد مجرد بند اقتصادي، بل هو شريان حياة. فعندما تتلاقى الجرأة في القرار مع وضوح الرؤية، ويتحول رأس المال البشري إلى قوة إنتاجية، والموارد المحدودة إلى منصات ابتكار، والتحويلات المالية إلى استثمارات، والبيروقراطية إلى رقمنة، حينها فقط يستطيع الأردن الخروج من عنق الزجاجة وفتح صفحة جديدة في تاريخه الاقتصادي.