الاستبداد وصناعة التخلف
كان عنترة رغم قوته وشجاعته عبدًا يعيش على هامش حياة القبيلة، لكنه ما إن أغار عليهم بعض العرب واستلبوا إبلهم، حتى خشي أبوه – الذي لم يُلحقه بنسبه- من الفضيحة، فصاح قائلًا: «كُرّ يا عنترة»، فأجابه العبد الأسود: «العبد لا يُحسن الكَرّ، إنما يُحسن الحِلابَ والصَّرّ»، فقال شداد: «كُرّ وأنت حُرّ»، فهبَّ عنترة وهزم عدوهم وصان الشرف، ومنذ تلك اللحظة صار فارس العرب.
من أين للوالد وولده العلم بأن النفس البشرية لا تنشط وتُطلق قواها الكامنة إلا في ظلال الحرية، سوى أنها حقيقة استقرت في الضمير العربي، فقد كانوا قبل البعثة لهم من نصيب الحرية ما لم يكن لغيرهم من الأمم، التي تعودت الانحناء والسجود أمام ذوي السلطان، ولعل ذلك يفسر اصطفاء العرب، لأن تتنزل رسالة الإسلام بينهم، حيث أن هذا القول الثقيل لا يقوم به إلا أصحاب النفوس الحرة، التي لم تألف عبودية البشر، فقد كان الحر من العرب ملكًا في نفسه، يحل ويرتحل حيث يجد حريته، فلما جاء الإسلام جمعهم تحت نظامٍ واحد، ينعمون فيه بأصول الحرية التي كفلها الله للبشر، فانطلقوا لبناء حضارة شهد على روعة بنائها القاصي والداني.
الذين حمَّلوا الإسلام مسؤولية التخلف الذي اكتنف الأمة، واستوردوا لنا في ضوء ذلك من الغرب منهج التمرد على الدين بدعوى التقدم والتحضّر، فشلوا في أن يُخرجوا الأمة من مربع التخلف الذي تعيش فيه، فبطل الاتهام. غير أن الحقيقة التي تجاهلوها وبرزت في بوارق الفكر لدى المصلحين، أن التخلف ليس سوى نتيجة حتمية للاستبداد بجميع أشكاله، وأعني بالاستبداد ما تقرر في مصطلح السياسيين من تصرف فرد أو جَمْع في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوف أو تبعة، قد يحمل هذا الوصف فردٌ أو جمعٌ اتفقت كلمة أفراده على طبيعة الاستبداد، خارجٌ عن المراقبة وفي مأمن من المحاسبة.
إن عصر الاستبداد هو عصر الرويبضة (التافه من القوم)، ومن قبائح الاستبداد أنه يُخمد الفكر المُتَّقد، ويُميت الهمم، ويُعلي أراذل القوم، ويقتل طبيعة النضال، وذلك حين يُصبح المرء غير آمن في سربه، يخشى على نفسه وعرضه وماله، فيستولي ذلك على عقله وتنحبِس تطلعاته، بخلاف من يعيش في مناخ الحرية، تنطلق إبداعاته، ولا تخمد تطلعاته إلى المجد، فهو حر ولو كان خلف القضبان، وحرٌ ولو لم يجد ما يسدُّ الرَّمق، وقد قيل لأحد الأحرار: «لماذا لا تبني لك داراً؟» فقال: «ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر».
ولذا وصف المفكر الراحل محمد الغزالي إذلال الشعوب بالاستبداد، بأنه جريمة تخدم الصهاينة، «فإن الأجيال التي تنشأ في ظل الاستبداد الأعمى تشبُّ عديمة الكرامة ضعيفة الأخذ والرد، ويستحيل أن يتكون في ظل الاستبداد جيلٌ محترم، أو معدن صلب، أو خُلُق مكافح». كما أن بيئة الاستبداد، بيئة طاردة للعقول والمواهب، ولطالما هاجر خيرة أبناء الأمة إلى بلاد الحرية، التي دأبت على تبنّي المواهب والعقول، وتوفير بيئة آمنة صحّية للعمل، فيفوزون ونخسر، ويتقدمون ونتأخر، وكم أنجبت الأمة من مبدعين ثم خسِرَتهم جرّاء الاستبداد.
وفي ظل الاستبداد، يُقدَّم الناس على أساس الثقة لا الكفاءة، فلا وجود لميزان «إن خير من استأجرت القوي الأمين»، فالذي يعني المُستبد أن يجمع حوله من يثق في ولائه وعدم الخروج عن أمره، ويسبح ليلا ونهارًا بحمده، وهؤلاء لديهم الاستعدادات الكافية للتملق والمداهنة، وكُلما زاد الاستبداد، انحطّت نوعية المُحيطين بصاحب السلطة المُستبِد، ورحم الله القائل: «الويل لأمة يقودها التافهون، ويُخزى فيها القادرون».
وفي ظل حكومة الاستبداد يُصدّق الكاذب، ويُكذب الصادق، ويُؤتمن الخائن، ويُخوّن الأمين، ويتحدث التافه في أمر العامة، وتُضفى أرقى النعوت وتُقلّد أرفع المناصب لذوي التملُّق والتَّماهي التام، بينما يُحرم منها أهل الجد والاجتهاد، طالما أنهم لا يلعقون قوائم العرش، فأَنَّى لبلاد هذا شأنها أن تتقدم إلى الأمام؟ ويعمَدُ المُستبد إلى إشاعة الانحلال لضمان ضياع القيم والأخلاق، ويصنع أجيالا تتَّسِم بالخَوَر والضعف وسُفُول الهمة، حتى يكون غاية أحدهم إشباع شهواته، فمن ثم يكون الشعب كما قال عبد الوهاب عزام:
تبلّد في الناس حِسُّ الكفاح….. ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
وما ضاعت الأندلس إلا بذيوع الخور والضعف والاستغراق في حياة الدعة، وإبان الحرب العالمية الثانية، كانت ميوعة الشباب الفرنسي كفيلة بأن تقع بلاده في أيدي النازيين في أيام. ومع طول أمد الاستبداد تتلوَّث فطرة الناس وطبيعتهم النافرة من الذل، الرافضة للحيْف، ويتلبّسون بطبائع العبيد التي ذكرها أديب الظلال «استخذاء تحت سوْط الجلاد، وتمرداً حين يرفع عنها السوط، وتبطُّراً حين يُتاح لها شيء من النعمة والقوة»، وكيف لمثل هذه الشعوب التي تستعذب الذل وترضى بالفتات، ولا تسير إلا بجلد الظهر أن تنهض من سباتها وتسابق الأمم؟
وتبرَعُ الحكومات الاستبدادية في إلهاء الشعوب بالقضايا التافهة التي تُحدث حالات التجاذب والتنافر والاستقطاب، فمتى خلا المجتمع من أعمال كبيرة يتمجّد بها، كان كما قال الرافعي «تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهّى بها».
وفي ظل الاستبداد تُستلب خيرات البلاد، وتبقى في يد الحاكم والفئة المُتنفّذة التي تشدُّ ظهره، في حين تبقى الأغلبية من الشعب تعيش على الفتات، ويزداد الوضع مرارة إذا تزاوج الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني، فوجد من المنتسبين إلى علوم الشريعة من يُشرعن باطل الحكام، ويأمر الناس بالصبر على ضيق الرزق تكريسًا للظلم الاجتماعي.
فإذا تكدّست الأموال والثروات بيد تلك القِلة ضاعت البلاد، لأن أصحاب رؤوس الأموال في ظل الحكومات المستبدة لا ينفقون أموالهم في ما فيه نفع الناس، وإنما يقتصر إنفاقهم على شهواتهم وملذاتهم، بخلاف أصحاب الأموال في ظل الأنظمة العادلة، فيتجهون طوعًا أو كرهًا للإنفاق في مصالح العامة.
وبين المستبدين والعلم وأهله جفاء، وجهل الشعوب قرُّة عيونهم، فللعلم سلطان نافذ، يُظهر حقارة المستبدين، إذ أنه يرتقي بالعقول والأفهام، ويُبصِّر الشعوب بأوضاعها وحقوقها وما لها وما عليها، لذلك مهما حاول المُستبد إظهار اهتمامه بالعلم، فإنه يفتضح أمره عند التطبيق، فتراه ينفق في شؤون الترفيه أكثر ما ينفقه في شؤون التعليم، وإذا أنفق عليه جعل الخلل في برامج التعليم وعدم تناغمها مع أحوال المجتمع، وإذا أتى بتلك رأيته يصنع الفجوة بين التعليم وسوق العمل، فمن ثم تموت الطموحات العلمية لدى أبناء الشعوب.
عبد الرحمن الكواكبي بحث في أسباب الاستبداد، وخلُصَ إلى أن المستبد يُولَّى على المستبدين، حيث يكون «كل فرد من أُسراء الاستبداد مستبدًا في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم تابعين لأمره».
وهو بذلك يتوافق مع القاعدة المأثورة «كما تكونوا يُولى عليكم»، وعلى الرغم من أنها ليست قاعدة مطردة، إلا أنها تخرج مخرج الغالب الأعم، لذلك لا مناص من بناء النفس البشرية على المستوى الفردي والفئوي، فذلك هو الطريق اختصارًا، فالاستبداد يُعطّل سُنّة المُدافعة، قال ربّ العزّة: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ»، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.