الاستاذ حسن البنا رحمه الله

الاستاذ حسن البنا رحمه الله  

  سالم الفلاحات

شخصيات كثيرة مرت عبر المائة سنة الماضية تركت بصمات كبيرة في الواقع العربي والإسلامي، لكن بعضهم كان متميزا جدا حيث مازج بين الوعي والوعظ والتنبيه والتنظيم الدقيق لجهود المستجيبين لفكرته، وهذا من أبرز ما ميزه عن غيره من المصلحين مع التسليم انه لم يبدأ من الصفر انما بنى على جهود من سبقه وأكمل رسالتهم ولكن بطريقته الخاصة.  

ومع كثرة قراءتي عن هذه الشخصية الاستثنائية التي سبقت عصرها بمائة سنة، وقلما تجد من يكون بعيد النظرة ثاقب الفكر وليس مستهلكا بالظرف الذي هو فيه، الا انني هنا اريد ان انقل شهادة صحفي امريكي زار مصر 1946 وعاد اليها في عام 1950 بعد استشهاد البنا بسنة، فكتب شهادته في خمسين صفحة، ألا وهو الصحفي روبير جاكسون ومما قاله عندما زاره: –  

 زرت هذا الاسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو حسن البنا زعيم الاخوان المسلمين.  

وبعد خبر استشهاده قال جاكسون: –  

 هكذا الشرق لا يستطيع ان يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده.  

ويقول: كان جمال الدين الافغاني يرى انّ الاصلاح يكون عن طريق الحكم، ومحمد عبده يراه عن طريق التربية، وقد استطاع هذا الرجل ان يدمج بين الوسيلتين.  

ما أستطيع ان اقوله انّه أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وقد فشلت كل المحاولات معه.  

 معاملة الخصوم:   

كان عجيبا في معاملة خصومه، لا يصارعهم بقدر ما يحاول اقناعهم وكسبهم الى صفّه، وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحوّلها لخصومة شخصية، ولكنه لم يسلم من أذى معاصريه.  

كان مذهبه أن يرد مادة الاخلاق الى صميم السياسة بعدما نزعت منها، وبعد أن قيل إن السياسة والاخلاق لا يجتمعان، وكأنما يريد ان يكذّب قول (تارين) انّ اللغة لا تستخدم إلاَّ لإخفاء آرائنا الحقيقية.  

ويقول: مما لفت نظري فيه أنه انتهج نهج عمر في إبعاد أهله عن مغانم الدعوة وعن كبريات المناصب.  

ومن أ برز اعمال الرجل انه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية، فأعلى قدر الوطن وعزز قيمة الحرية، وجعل ما بين الفقير والغني حقاً وليس احساناً، وبين الرئيس والمرؤوس صلةً وتعاوناً وليس سيادة، وبين الحاكم والشعب مسؤوليةً وليس تسلطاً.  

وقال جاكسون نقلاً عن البنا: أحب من الرجل المسلم ان يطبع حياته بطابع كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخالدة (أحب من الرجل ان سيم الخسف ان يقول (لا) بملء فيه).  

وقال لي: انّ سر انتصار الغرب وظفره هو الإسلام، فقلت مستغرباً وكيف؟ فقال:  

الأولى: ان الشرق حافظ على التراث القديم وزاد عليه حين اسلمه لأوروبا عن طريق قرطبة والقسطنطينية.    

والثانية: انتصر بأخلاق الشرق ومبادئه، وقد عرف الغرب الحصيف كيف وصل الشرق بهذه الاخلاق حين غفل عنها اصحابها، انّ ما تراه اليوم في الشرق ليس الاسلام انما المسلمون اسما ووراثة، وهي كلها من القرآن، لكنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.       انتهى  

في عشرين سنة فقط منذ البداية حتى الاستشهاد ملأ الدنيا واشغل الناس، واتعب من جاء بعده، وقد بدأ في العشرينيات الاولى من عمره شابا يحمل همّ الكبار والمصلحين والعلماء، بالرغم من تخذيلهم له واستبعادهم لتقدمه خطوة واحدة للأمام.  

 ما اكثر الأقلام التي كسرت والسيوف التي أغمدت، وما اكثر الشخصيات التي  اغتيلت معنوياً وطمست، والكنوز التي ضيّعت بتعبير جاكسون، و لا شك ان من ابرزهم الاستاذ حسن البنا  الذي اغتيل  في الثاني عشر من شباط 1949 بإطلاق النار عليه على باب جمعية الشبان المسلمين، بقرار رسمي وبدم بارد، بعد ان  حلوا جماعة الاخوان واعتقلوا الكثيرين من أعضائها، واستثنوه من الاعتقال ليقتلوه وكان يعرف  ذلك، وترك في المستشفى الحكومي ينزف، ومُنع الاطباء من اسعافه، لكنهم لم يعلموا أنّ دمه انساح في  معظم انحاء الأرض دعوة للنهوض  فكراً ووعياً وإفادة من الدروس الحياتية التي مارسها، مُنع الجميع  حتى من المشاركة في جنازته باستثناء والده  والاستاذ مكرم عبيد  وبعض نساء بيته فقط.  

ما أعظمها حالة من الدكتاتورية والحكم الفردي التي لازالت معشعشة مستوطنة، حتى هذا اليوم ولم تتزحزح عند العرب قاطبة، وما زالت الشعوب تحاول النهوض ولم تيأس، رغم التضحيات الكبرى التي قدمتها وتقدمها الشعوب.               

 11/2/2021  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى