في طابور البنك (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة

في طابور البنك
(قصة قصيرة)
من قال أن المال لا يجلب السعادة؟
حتى عبارة “يجعلك تعيش حزنك بسعادة” المعروفة، ما هي إلا جزءٌ من السعادة التي يمنحها المال…!!

في طابور البنك.. أقف وعيناي تجوسان في زملاء اللحظة كنوع من تزجية الوقت، هناك كهل بسيط الحال ينظر في ساعته كل دقيقة كأنه ليستوثق أن الساعة تعمل بكفاءة ربما، وهناك فاتنة ما تكلم صديقتها في الهاتف لأنها وجدت متسعا ما لتثرثر عن صديقتهما المشتركة التي جُنّت وقبلت الزواج بــ “عوض أبو راس” بدلا من انتظار نصيب أفضل، وهناك من يرتدي نظارته الشمسية لإخفاء شخصيته على ما يبدو في قاعة البنك التي لا يدخلها شعاع شمس يُذكر..

حان دور الرجل الغامض صاحب النظارات فتقدم إلى الصراف مبتسما في حيوية:-

– هل أنت جديد هنا؟.. لم أرك في المرة الماضية، أريد إيداع هذا المبلغ في حسابي..

مقالات ذات صلة

ثم رفع نظاراته إلى ما فوق مقدمة رأسه.. لا مجال للخطأ في عد المال كما تعلمون !!.. رصّ بضعة رزم مكتنزة وبدأ في عدّها بمعاونة محاسب الصراف، إنتبهت إلى الكهل الذي يقف خلف الرجل الغامض الذي أصبح مرحا الآن، لم يكن ينظر إلى رزم المال رغم حاله المتواضعة إلى حد بعيد.. لباسا وذقنا وهيئة، لم يكن ينظر كالآخرين (إحم) تجاه الفتاة بارعة الجمال التي لا زالت تثرثر مع زميلتها حول صديقتهما المشتركة – الحمقاء – التي خُطبت لــ “عوض أبو راس”، لم يكن ينظر نحوي رغم أنني أثير الفزع بنظراتي التي فاقت حدة نظرات المخبرين، كان يكلم أهل بيته على الهاتف والعرق البارد يتفصد عن جبينه هلعا:-

– قلت لك لن أتأخر، هل لا زال الصغير يبكي؟.. أسكتيه حتى أعود بالطعام، هل لا زالت فاطمة في غرفتها لا تريد الخروج؟.. قولي لها أنني عائد بالمال وستعود لمدرستها غدا، أعلم أعلم.. البقال يرسل صبيه منذ الصباح، حين يعود مجددا قولي له أنني سأمر عليه بعد الظهيرة، أعلم أيضا أن الولد في الجامعة مطالب بدفع إيجار غرفته، لا أعلم لم أبعدته لجان التنسيق ليدرس في مدينة أخرى بعيدة !!.. ماذا عن جامعة المدينة؟.. مم تشكو؟؟.. لا تقلقي سأعود قريبا.. مع السلامة..

فطنت إلى أن هذا الشقيّ ليس بكهل.. فقط عبثت به ظروف الحياة لتحيله كهلا لم يجاوز الأربعين خريفا!!.. كان زميلنا الثري المرح لا زال يعد رزمه ويعابث الصراف بكلمات ثقيلة من طراز:-

– عدها جيدا.. هذا إيراد المحلات ليومين !!.. كم؟.. سبعون ألفا؟!

ثم مطّ شفتيه في غير رضا ووقّع الأوراق وغادر، الكهل الذي لم يكن كهلا يتقدم في الصف ويكلم الصراف:-

– حساب رقم (…..) أرجو أن تعطيني كل ما في الحساب بعد سداد التزاماتي للبنك والشيكات..

الموظف يضرب على الأزرار، ثم يخرج مبلغا لا يتعدى المائتي دينار من الدرج، يعده ثم يسلمه إلى الكهل مع ورقة للتوقيع بالاستلام، يغادر الكهل أخيرا وهو يعد المال في لهفة بائسة ويثني أصابعه بتتابع كأنما يحسب المخارج التي سيذهب إليها كل قرش من دنانيره القليلة..

جاء دور فاتنة الطابور لترمق الموظف بعذوبة (ربنا الله هو أجمل من عوض أبو راس بلا شك)، طلبت سحب مبلغ ما بصوت تهدّج دلعا، الجميل هنا أن هذا الصراف كان يتعامل بآلية كاملة، لا تستثيره فتنة ولا تستفزه نكتة.. ربما لا مكان في عمله للغضب إذا ما سبّه أحدهم أيضا..

تقدمت في الصف حتى وقفت أمامه، فنظر هذا بتساؤل.. قلت له ساهما:

– ربما كان برودك حقيقيا، لكني أظن أنه سلاح تستخدمه للسيطرة على مشاعرك في محرابك الذهبي هذا، هل تعلم أنك كنت لتكون كاتبا جيدا مليئا بأفكار جديدة في كل مرة تكتب فيها قصة ما؟.. فلا تحتاج إلا للنقل والاقتباس الذي لن يحاسبك عليه أحد!!.. عملك ككاهن لبيت المال هذا يريك صنوفا كثيرة من البشر مع قصصهم الكاملة بلا رتوش أو تزييف للحقائق، أنت مثل حارس المقابر وصاحب البيت والبقال ورب العمل، الجميع مكشوف أمامك كأنهم عراة لا يملكون من أمرهم شيئا يسترهم من عينيك، المصيبة أنك أكثرهم عذابا نفسيا.. في عهدتك كل هذا المال ولا تكاد تجد ثمن سجائرك التي تستعين بها على الصبر، لو كنت مكانك لفعلت الصواب الوحيد في عالم المجانين هذا..

مسح عن جبينه عرقا باردا وشفتاه ترتعشان من أثر كلماتي:-

– وما هو ؟!!

قلت مبتسما في مرارة:-

– كنت جمعت هذا المال من الخزنة وخرجت به إلى الشارع كي أزوج به تلك المائعة التي أعيتها الحيل بحثا عن عريس يصلح في زمن العزوبية جبرا إثر إملاق.. حتى لو كان عوض أبو راس نفسه، كنت سأبحث عن الكهل – الذي ليس كهلا – كي أسد ديونه للبقال والمدرسة وصاحب البيت، كنت سأملأ جيوب التاجر الثري الذي لم تعجبه السبعون ألفا إيراد محاله ليومين، حتى يكف عن سرقة ما في جيوب الفقراء غلاءا ومغالاة..

إبتلع المحاسب ريقه بصعوبة، وقال في لهجة عملية خرجت متهدجة رغما عنه:-

– ما رقم حسابك سيدي؟!!

إستدرت مبتعدا:-

– حسابي وحسابهم عند الله يا صديقي…

تمّت

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى