الإكتفاء بالدعاء

الإكتفاء بالدعاء
د. هاشم غرايبه

في الإستعراض العسكري الذي أقامته الصين في عيدها الوطني السبعين، عرضت أسلحة متطورة أذهلت المراقبين، صحيح أنها لا تشكل تهديدا جديا للغرب عموما ولأمريكا تحديدا، لكنها مقلقة لهؤلاء كونها تقترب من المنافسة لانفراد أمريكا بالسيطرة التامة على العالم.
هذا الصراع التنافسي قد يظن الساذجون أنه في صالح الدول المتخلفة (كأقطار أمتنا) مبدئيا، لكن أثبتت الوقائع السابقة مثل الحرب على العراق والحرب على الإرهاب (الإسلام)، أن الأمم الهزيلة أمثالنا هي ساحات صراعات الأقوياء، والخاسر الأول في معاركهم، حيث أن القوى الكبرى لم تعد كالسابق تتصارع على الغنائم، لأن الصراع مهلك للطرفين، بل هي تتعاون وتتوافق على تقاسم أشلاء الفرائس.
لماذا تسعى الصين للوصول الى مراتب في القوة متقدمة؟.
لقد وصل النظام العالمي الجديد الى الثبات بفعل استفراد أمريكا بالقوة العسكرية، وهذا لا يسمى استقرارا، بل حالة من توقف التجاذبات الإقليمية بسبب فرض أمريكا الهيمنة على الجميع وإقرارهم لها بذلك، وقد استثمره الأمريكان في أكثر من صعيد: اقتصاديا فرض الدولار نفسه ومن غير الحاجة الى غطاء ذهبي بالقوة ذاتها التي فرضتها حاملات الطائرات الأمريكية، ثقافيا فرضت الثقافة الأمريكية في كل بقاع الأرض، فصار (الجينز) و (الماكدونالدز) و (الكوكاكولا) عنوانا لها تجده أينما حللت، وفرض الإعلام ووسائل التواصل الأمريكي (الفيسبوك والواتس اب ..الخ) كوسيلة وحيدة لالتقاء البشر.
إذاً فالأمر ليس مجرد شعور بالعظمة، بل هو مكاسب ومنافع مباشرة، أنتجت رخاء وازدهارا للشعب الأمريكي، حتى أصبح في وضع يحسده عليهم غيرهم من الشعوب، رغم أنه ليس أمة عريقة ولا وارث أمجاد تليدة، بل هم مجموعات سكانية مختلفة الأصول والمنابت، جاءوا الى هذه القارة من كل حدب وصوب، بعد أن أباد الغزاة الأوروبيون أهلها الأصليين، واستعمروا أراضيهم.
لذلك فكل أمم الأرض تصبو الى تبوء هذه المكانة الرفيعة التي انتزعتها أمريكا منذ سبعين عاما من بريطانيا، والتي بدورها تمتعت بها قرنا واحدا بعد تمكنت من إزاحة الدولة الإسلامية التي انفردت بكونها القوة الأعظم طوال عشرة قرون كانت تضعف فيها أحيانا وتقوى، لكن لم يتمكن المنافسون من اسقاط هذه القطبية الإسلامية إلا بعد أن تمكنوا من تقسيم الأمة وشرذمتها، فكانت الأمة الوحيدة من أمم الأرض التي تجزأت الى أقطار، وما كان ذلك لينجح لولا خيانة من بني جلدتها طمعا بالحكم، فيما فشل ذلك الأسلوب مع كل الأمم الأخرى غيرها، لأنهم لم يجدوا من بين أبنائها من يتبرع لمحاربة عقيدة أمته واتباع عقيدة أعدائها، فرغم هزيمة ألمانيا واليابان وإيطاليا، واستسلامها بعد تمزقها شر ممزق، إلا أن أحدا من ابناء تلك الأمم لم يقبل الإنقياد الى ثقافة أو عقيدة الأمة الغالبة، وظل الجميع متمسكا بوحدتها، الى أن نهضت وعادت من جديد الى نادي الأمم القوية المتنافسة على الصدارة.
الصين رغم عراقتها وريادتها الحضارية، إلا أنها لم تحظَ يوما بقيادة العالم، بل تعرضت الى الإحتلال من قبل أمة أصغر منها بكثير هي الأمة اليابانية، وبعد تحررها منه، وقعت في قبضة نظام شيوعي مستبد تبنى فكرة لا واقعية، عانت فيها الصين من الظلم والتأخر خلال الفترة الماوية، وتعطل تقدمها الحضاري نصف قرن، لكن في العقدين الأخيرين تنبه قادتها فصححوا المسار واستطاعوا خلال عشرين عاما استغلال الطاقة السكانية الجبارة لصالح بناء قاعدة تصنيعية منافسة للغرب، وباستلهام التجربة اليابانية في اختلاس التقنيات الغربية ثم باستغلال رخص الأيدي العاملة، تفوقت في التنافسية التجارية بشكل ساحق على الصناعات الغربية، وتمكنت في أغلب الميادين من فرض نفسها كبديل لتلك السلع، بدلالة أنه لا يوجد حاليا أي منتج غربي مهما كان عالي التقنية يخلو في تركيبه من قطع صينية المنشأ.
بعد أن حققت الصين هذه المكانة، لم يبق عليها إلا أن تحميها، والوسيلة الوحيدة هي القوة العسكرية.
أما نحن، وبدل انتظار أن يهلك الله الظالمين، فليس أمامنا من خيار غير النهضة كما فعلوا، والخطوة الأولى وحدة الأمة، والوسيلة الوحيدة لوحدتها هي عبر التوحد على منهجها، ويكفينا قرناً من التجريب الفاشل في غيرها، فما زاد ذلك الأمة إلا انقيادا للغرب وابتعادا عن مصدر عزتها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى