#الإسلام يعدّل #الموازين والمعايير والمقاييس
#ماجد_دودين
أرسل الله جل وعلا وتقدّس خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه إمام الأنبياء والمرسلين …الحبيب المحبوب والصادق الأمين رحمة للعالمين … جاء إلى العرب وهم غارقون في الأحقاد والخصومات فأحال الفوضى نظاماً والأحقاد محبة والخصومات مودة … وارتفع بأخلاقهم وأفكارهم وتصوراتهم إلى درجة أصبحوا بها معلمي البشرية وأساتذة الأجيال… جاء ليصحح فهم الإنسان عن خالقه وعن الإنسان والكون … جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الناسَ لا تَتفاضَلُ بحُسْنِ المظاهِرِ أو كَثرةِ الأموالِ، وإنما تتفاضلُ بطَهارةِ القلوبِ، والخَشيةِ من اللهِ، والسَّعيِ في الأعمالِ الصالحةِ وبيّن لنا صلى الله عليه وسلّم:” إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم” …”إنَّ اللهَ تعالى لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم، وأموالِكم”، أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لا يَنظُرُ إلى أجسامِ العبادِ؛ هلْ هي كَبيرةٌ أو صَغيرةٌ، أو صَحيحةٌ أو سَقيمةٌ، ولا يَنظُرُ إلى الصُّوَرِ؛ هل هي جميلةٌ أو ذَميمةٌ؛ ولا يَنظُرُ إلى الأموالِ كثيرةٍ أو قليلةٍ؛ فلا يُؤاخِذُ اللهُ عزَّ وجلَّ عبادَه، ولا يُحاسبُهم على هذه الأمورِ وتَفاوُتِهم فيها، “ولكنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم”، أي: إلى ما فيها من التَّقْوى واليقينِ، والصدقِ والإخلاصِ، وقصدِ الرياءِ والسُّمعةِ، وسائرِ الأخلاقِ الحَسنةِ والقبيحةِ، “وأعمالِكم”، أي: وينظُرُ إلى أعمالِكم من حيثُ صلاحُها وفسادُها؛ فيثيبُ ويُجازي عليها؛ فلَيسَ بَيْنَ اللهِ وبَيْنَ خلْقِه صِلةٌ إلَّا بِالتَّقْوى؛ فمَنْ كان للهِ أتْقَى كان من اللهِ أقربَ، وكان عندَ اللهِ أكرمَ؛ إذَنْ فعلى المَرْءِ ألَّا يَفخرَ بِمالِه ولا بِجَمالِه ولا بِبدنِه ولا بِأولادِه ولا بِقُصورِه، ولا بِشيءٍ من هذه الدُّنْيا أبدًا، إنَّما إذا وفَّقه اللهُ لِلتَّقوى؛ فهذا من فَضلِ اللهِ عليه؛ فَلْيحمدِ اللهَ عليه، وإنْ خُذِلَ فلا يَلومَنَّ إلَّا نفْسَه.
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً – وهما دقيقتان هزيلتان – فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد).
ليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها، قوة تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه: يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته. الرجولة بإيجاز هي قوة الخلق وخلق القوة. وفي المقابل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في البخاري:” إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، وقالَ: اقْرَؤُوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]. وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن مَشهدٍ مِن مَشاهدِ يومِ القيامةِ، حيثُ يؤْتَى برَجُلٍ عَظيمٍ سَمينٍ، ولكنَّه لا يَزِنُ عندَ اللهِ جَناحَ بَعوضةٍ؛ لخلُوِّ قلْبِه مِنَ الإيمانِ الَّذي هو مَحلُّ الوزنِ يومَ القيامةِ، وبه تَثقُلُ الموازينُ، وكَم مِن عَظيمِ الجُثَّةِ لا وقْعَ له! لأنَّ الوقْعَ إنَّما يكون بِالمعاني لا بالصُّورِ.
وقد ذمَّ اللهُ تعالَى المنافقِينَ أصحابَ الأجسامِ القويَّةِ المعْتدلةِ، ولكنَّهم كالأخشابِ المسنَّدَةِ إلى الحائطِ لا يَسْمعونَ ولا يَعقِلونَ؛ فهم أشباحٌ بلا أرواحٍ، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].
وفي مشهد آخر من مشاهد قيام النبي بتعديل الموازين والمعايير والمقاييس … نقرأ الحديث الصحيح في البخاري: ” مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ يُسْتَمَعَ، قالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقالَ: ما تَقُولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْتَمَعَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا.”
المِيزانُ عندَ اللهِ يَختلِفُ عن المَوازينِ عندَ النَّاسِ؛ فكَثيرًا ما يَقيسُ النَّاسُ بَعضُهم بعضًا بِمَوازينِ الدُّنيا مِنَ الجاهِ والمالِ والسُّلطانِ، أمَّا المِيزانُ عندَ اللهِ فَهو بِقُربِ العبدِ إليه وبتَقْواهُ؛ قال اللهُ تعالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وهذا الحديثُ يَدُلُّ دَلالةً واضحةً على هذا المعنى، حيث أراد الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُبَيِّنَ لأصحابِهِ نَموذَجًا عَمَليًّا حين مَرَّ رَجُلٌ مِن أغنياءِ المُسلِمينَ، فسأل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الحاضِرين من أصحابِه عنه: «ما تَقُولونَ في هذا؟» فأجابوا أنَّه جَديرٌ إنْ أراد الزَّواجَ أنْ يَقبَلَه النَّاسُ زَوجًا لمَن رَغِبَها، وإنْ أراد أنْ يَشْفَعَ في أحَدٍ قَبِلوا شَفاعَتَه فيه، وإنْ تَحَدَّثَ أنصَتوا له؛ لأنَّهُم يَرَونَه صاحِبَ جاهٍ ومالٍ وسُلطانٍ.
ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مِن عامَّةِ المسلمين، ليس له قَدْرٌ بيْن النَّاسِ، فسألهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه: «ما تَقُولونَ في هذا؟» فأجابوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَكْسَ ما أجابوا في الأوَّلِ؛ بأنَّه إنْ أراد الزَّواجَ لا يُزَوِّجُه أحَدٌ، وإنْ شَفَعَ في أحَدٍ لا تُقبَلُ شَفاعَتُه، وإنْ تَكَلَّم فَلا سامِعَ له؛ لأنَّهم يَرَونَه فَقيرًا، لا جاهَ له ولا سُلطانَ؛ فَبَيَّنَ لَهُم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأمْرَ على المَعنى الصَّحيحِ، وذلك أن قال لهم: «هذا» الفقيرُ «خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا» الغنيِّ؛ فالعِبرةُ ومَقامُ المَرءِ وقِيمَتُه ليستْ بمالِه ولا جاهِه ولا سُلطانِه، إنَّما هي بِتَقوى العَبدِ وصَلاحِه ومَقامِه عندَ رَبِّه. وإطلاقُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التفضيلَ على الغنيِّ المذكورِ لا يلزَمُ منه تفضيلُ كلِّ فقيرٍ على كُلِّ غنيٍّ؛ فالمعيارُ في التفاضُلِ الدِّينُ والتقوى، وليس الغِنى والفَقرَ.
انظروا إلى الفرق بين الذهب وبين الروث والبول – أجلّكم الله تعالى – في مشهديْن مختلفيْن… وكيف أن الروث يكون أغلى من الذهب وأنفع …قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة في البخاري: “مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا في سَبيلِ اللَّهِ إيمانًا باللَّهِ وتَصْدِيقًا بوَعْدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ ورِيَّهُ ورَوْثَهُ وبَوْلَهُ في مِيزانِهِ يَومَ القِيامَةِ.”
الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ هو ذِرْوةُ سَنامِ الإسلامِ، وفيه تُبذَلُ الأمْوالُ والأنْفُسُ، وقد جَعَلَ اللهُ الخَيلَ رَمزًا لِلعَتادِ والقُوَّةِ في الحُروبِ والجِهادِ، والتي إذا أعَدَّها صاحِبُها لِمِثلِ هذا المَقامِ، نالَ بها خيرًا كثيرًا في الدُّنيا والآخِرةِ. وفي هذا الحَديثِ بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَضْلَ مَن أوقَفَ شَيئًا على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ؛ فقال: «مَنِ احتَبَسَ فَرَسًا في سَبيلِ اللهِ»، أي: جَعَلَه وَقْفًا لِلجِهادِ والدِّفاعِ عنِ المُسلِمينَ، إيمانًا باللهِ، وتَصديقًا بالثَّوابِ المُرتَّبِ على هذا الوَقفِ؛ فإنْ وَقَفَ المُسلِمُ فَرَسًا بهذه النِّيَّةِ كان طَعامُ الفَرَسِ وماؤُه الذي يَشرَبُه، حتَّى رَوْثُه وبَولُه، ثَوابًا له، ويَكونُ هذا الثَّوابُ في مِيزانِه يَومَ القيامةِ. بينما يكون الذهب وبالاً على صاحبه حين يكنزه ولا ينفقه في سبيل الله تعالى … يقول جلّ وعلا: ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) سورة التوبة … وقال صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح في صحيح مسلم:” ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْها حَقَّها، إلَّا إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفِّحَتْ له صَفائِحُ مِن نارٍ، فَأُحْمِيَ عليها في نارِ جَهَنَّمَ، فيُكْوَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظَهْرُهُ، كُلَّما بَرَدَتْ أُعِيدَتْ له، في يَومٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حتَّى يُقْضَى بيْنَ العِبادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ؛ إمَّا إلى الجَنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ….”
المالُ زِينةُ الحياةِ الدُّنيا، وقد بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الحُقوقَ الواجبةَ على مَن ملَكَ مالًا وافرًا؛ مِن الزَّكاةِ والصَّدقةِ، وبيَّن ما لَه مِن الفضْلِ والأجْرِ على ذلك، كما بيَّنَ عُقوبةَ مانعِ هذه الحُقوقِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ كُلَّ مَالِكٍ للمالِ مِن الذَّهَبِ أو الفِضَّةِ، ويَكْنِزُه، ولا يُؤُدِّي منه حقَّه بإخراجِ الزَّكاةِ وحُقوقِ اللهِ منه، إلَّا كان هذا المالُ يومَ القِيامةِ مُجَسَّدًا في صُورةِ رَقائقَ مِن الحدِيدِ، وقيل: مِن نَفْسِ المعدِنِ الَّذي يَكْنِزُه، فتُسَخَّنُ في نارِ جهنَّمَ، فيُكوَى بها جَنْبُه وجَبِينُه -كِنايةٌ عن وَجهِه- وظَهْرُه، فتُوضَعُ على جسَدِه ليُعذَّبَ بها، وهذا مِصْدَاقٌ لقولِ اللهِ تعالَى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]، فجعَلَ عيْنَ الذَّهبِ والفِضةِ والأموالِ هي المُحْمى عليها في نارِ جهنَّمَ يوْمَ القيامةِ، فيُوقَدُ على ما جَمَعوه ومَنَعوا حقَّه في نارِ جَهنَّمَ، فإذا اشتَدَّت حَرارتُها وُضِعَت على جِباهِهم وعلى جُنوبِهم وعلى ظُهورِهم، ويُقال لهم على سَبيلِ التَّوبيخِ: هذه هي أموالُكم الَّتي جمَعْتموها ولم تُؤدُّوا الحُقوقَ الواجبةَ فيها، فذُوقوا وَبالَ ما كُنتُم تَجمَعونه ولا تُؤدُّون حُقوقَه، وعاقبةَ ذلك.
ثمَّ أخبَرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّه كلَّما خَفَّت حَرارتُها وسُخونتُها، أُعِيدَ تَسخينُها ويُعادُ تَعذيبُه بها، والمرادُ مِن ذلك استمرارُ التَّعذيبِ ودَوامُه، ويكونُ هذا العذابُ واقعًا له في يومِ القِيامةِ، الَّذي مِقدارُه خمْسينَ ألفَ سنَةٍ، وهذا طُولُ يومِ الحسابِ، فيَظَلُّ طُوالَ هذه المُدَّةِ يُعَذَّبُ حتَّى يَحكُمَ اللهُ بيْن النَّاسِ جميعًا، ثمَّ يَعْرِفُ صاحبُ المالِ مَصيرَه وجزَاءَه بعْدَ هذا العذابِ؛ إمَّا أنْ يَرْحَمَه اللهُ فيُدْخِلَه الجَنَّةَ بفضْلِه، وإمَّا أنْ يَمْكُثَ في عَذابِ النَّارِ جَزاءً عادِلًا على سُوءِ عَملِه.
• مرجع الأحاديث النبوية الشريفة وشروحها من موقع الموسوعة الحديثية – الدُرَر السّنيّة.