الإستخلاف والتمكين / د. هاشم غرايبة

الإستخلاف والتمكين

بعد أن عرضت في المقالات السابقة ملامحا نظرية لتطبيق فكرة دولة إسلامية المنهج بمعايير معاصرة ، تساءل البعض عن مدى امكانية تحقق ذلك في ظل الظروف الحالية والتي لن تسمح بهذه الفكرة من حيث المبدأ ناهيك عن مقدرة المؤمنين بهذا المشروع على تحمل أعباء حمله.
هو تساؤل مشروع، فلا تنفع القناعات وحدها بالإنجاز، بل جهود متكاتفة وصبر على مجابهة الصعاب، تستلهم فيها العزيمة من قراءة التجارب العالمية التي نجحت في نقل أمم من واقع كان ميؤوسا منه الى النهضة والتقدم، أما الزاد الذي يبقي جذوة العزيمة متقدة فهو مستمد من الإيمان بالسنن الكونية التي وضعها الخالق كقواعد ثابتة، تسير الأمم والجماعات وفقها، سواء كانت حركتها صعودا أو نزولا.
إن ما يتعلق بموضوعنا خاضع لشروط الإستخلاف والتمكين ، وأحكام ذلك يستدل عليها من الآية الكريمة : “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”
من هذه الآية يمكن استخلاص متطلبات تحقيق المبتغى، ونلخصها بما يلي:
1 – إن وعد الله أمر متحقق وجوبا، فهو حتمي، لذا فإن ابتداء الآية بتبيان أن الأمر وعد يعني قطعية النفاذ .
2 – هنالك جهة محددة هي التي وُعدت في هذا الأمر:”منكم” أي من المسلمين تحديداً.
3 – ثم حصر الوعد بفئة من المسلمين صفتهم أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا هو الشرط الوحيد، أي لم يشترط عليهم غير الإلتزام بشروط الإيمان العامة، فلم يطلب أن يكونوا أمة متقدمة في مجال التقنيات والعلوم، ولا متميزة في حيازتها للأسلحة الفتاكة،ولا محققة للغلبة العسكرية والإقتصادية .. فقط الإيمان وعمل الصالحات ، أليست تلك المتطلبات سهلةً مستطاعةً أمام تلك الأعطية الجزيلة !؟.
4 – الإستخلاف في الأرض يعني حيازة السلطة والغلبة أي إقامة الدولة السياسية.
5 – ثم يبين الله لنا أن هذا الأمر قد أعطي لأقوام سبقوا، أي أنه سنة كونية قائمة وليست حالة خاصة بزمان أو مكان.
6 – الإستخلاف قد يعطى لبعض المؤمنين بغرض الإبتلاء وليس المكافأة مثل استخلاف بني إسرائيل، وقد يمنح لبعض أعداء الدين لتسليطهم على المؤمنين العاصين بغرض ردعهم واستعادتهم الى جادة الإيمان(كما هو حاصل حالياً)، لكن ما هو أبعد وارسخ هو التمكين أي ترسيخ الدعائم وتقوية أسباب البقاء، لكن نلاحظ أنه ورد في سياق الآية الكريمة ” وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ “، ولم تأت يمكنن لهم في الأرض، لأن تمكين الدين هو شرط ثبات الإستخلاف وعدم زواله، وخاصيته إقامة أوامر الله والحكم بالعدل، أما التمكين في الأرض فهو مرهون ببقاء الحال الصالح ” يعبدونني لا يشركون بي شيئا “.
7 – يأتي توضيح شرط التمكين في الأرض أي إقامة الدولة الإسلامية في قوله تعالى “وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ”، فالنصر لهذه الأمة لن يتحقق بأي وسيلة ولا باتباع أي منهج سوى نصر الله ، فإن شرطه أمران: صلاح العقيدة (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ)وصلاح المجتمع(وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ).
الخلاصة: قيام الدولة الراشدة من جديد ممكن لأنها سنة كونية وشروط قيامها الأولية الإلتزام بالمنهج الإلهي وإعداد العدة وبناء أسباب القوة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ )، وشروط ديمومتها وعدم تحولها الى حكم عضوض التزام نظام الحكم بصلاح العقيدة وصلاح المجتمع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى