
بسم الله الرحمن الرحيم
الأقوى يكتب #رواية_الهيمنة بين #الأقوياء و #الضعفاء
دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري
ثمّة شعور ثقيل يلاحق كل من يحاول الكتابة عن فلسطين في زمن اختناق الحقيقة؛ شعور يشبه الوقوف أمام ميزان مائل، تُوزَن فيه الكلمات قبل أن تُوزَن القضايا.
يكتب المرء وهو يدرك أن اللغة نفسها أصبحت ساحة حرب، وأن كل مفردة قد تُعامل كجريمة إذا لامست ما تخشاه الدول التي ترفع راية الحقوق وهي تمارس نقيضها. لذلك نعيد صياغة الجملة عشر مرات، ونحذف ونعدّل وكأننا نعبر حقل ألغام لغويًّا؛ فالرقابة لا تأتي دائمًا بزيّ شرطي، بل في هيئة قوانين «تحمي الأمن» وتُعطّل الضمير.
وهكذا ينتهي الكاتب إلى نصّين: واحد مُهذَّب بما يكفي ليعبر بوابات النشر وشهادة حسن السيرة السلوك، وآخر يظل حبيساً في درجٍ أو حاسوب، لأنه يقول الحقيقة كاملة؛ غير مُجتزئة أو مضبوعة بالقضاء الموظّف. نسخٌ لا يُفرج عنها خوفًا من أن تتحوّل الكلمة إلى تهمة، أو الرأي إلى ملف ينتهي بالسجن أو سحب الجنسية.
ومع ذلك يبقى الأمل أن يأتي يوم تُكتب فيه الحقيقة عارية صمّاء متجاوزة كل الحواجز العسكرية والدعاوي القضائية، ودون أن يبحث صاحبها عن مظلّة تحميه من سطوة قوى العنجهية.
ومن هذا التوتر بين الحقيقة والخوف، يتقدّم سؤال الإرهاب وروايته: من يملك حق تعريفه؟ ومن يملك سلطة تجريم مقاومة الضعفاء وشرعنة هيمنة الأقوياء؟ هنا تتقاطع أفكار عدد من المفكرين الألمان والعالميين، لتكشف مفارقة جوهرية تفتح باب هذا المقال.
القوة ومعضلة تسمية الإرهاب
لطالما شكّل سؤال الإرهاب وتوصيفه محوراً أساسياً في التفكير السياسي المعاصر، خصوصاً حين يرتبط بميزان قوى مختلّ بين طرفين غير متساويين. وقد عبّر عدد من المفكرين عن هذه الإشكالية بصيغ مكثّفة تختصر المفارقة الأخلاقية في تسمية الإرهاب.
يقول «يورغن تودنهوفر»: «الحرب هي إرهاب الأغنياء، والإرهاب حرب الفقراء»، بينما قال «بيتر أوستينوف» ذو الأصول اليهودية فكرة مشابهة: «الإرهاب حرب الضعفاء، والحرب إرهاب الأقوياء».
ومن زاوية تحليلية، يوضّح الباحث الألماني «هيرفريد مونكلر» أن الدولة قد تمارس ما يمكن وصفه بـ «إرهاب الدولة» حين تتجاوز حدود الشرعية أو تستخدم قوتها المفرطة بما يتجاز الضرورة. هنا لا تُعرَّف الأفعال انطلاقًا من طبيعتها، بل من موقع الفاعل داخل منظومة السلطة ومن قدرته على التحكّم بالرواية.
الإرهاب بين الرواية والشرعية
يتعمّق هذا النقاش حين نعود إلى قراءات مفكرين عالميين مثل «فرانز فانون» و«جان-بول سارتر»، اللذين درسا علاقة المستعمِر بالمستعمَر وكيف يفرض الأقوى تعريفه للإرهاب بوصفه «شرعياً»، بينما تُجرّم أشكال الدفاع عن النفس بوصفها «تطرّفًا». أما المفكر الأميركي اليهودي «نعوم تشومسكي» فيمدّ هذا الخطّ التحليلي ليقول إن الدولة الحديثة تمتلك من الأدوات الإعلامية والدبلوماسية ما يمكّنها من احتكار التصنيف الأخلاقي للإرهاب، بحيث يصبح واحداً حين يمارسه الضعفاء، وشيئاً آخر حين يمارسه الأقوياء.
وبذلك يتحوّل توصيف الفعل ذاته إلى ساحة صراع: ليس بين أفعال متباينة، بل بين روايات متنازعة على المعنى.
اختلال القوة وسيطرت اللغة
حين ننقل هذا الإطار إلى الواقع العربي في الشرق الأوسط، في فلسطين، لبنان، سوريا، اليمن والسودان، تتحوّل اللغة إلى أداة لتحديد من يسمّى إرهابياً ومن يُسمّى مُقاوما. إذ يُعاد تعريف القوة بأنها «دفاع»، ويُعاد تعريف المقاومة بأنها «إرهاب»، بينما تُهمّش كل محاولة لقراءة ميزان القوة بوصفه عنصراً مركزيا في فهم طبيعة الإرهاب. هذا التشويه في اللغة لا يعكس فقط اختلال القوة على الأرض، بل يعكس أيضاً اختلالًا في النظام الأخلاقي العالمي الذي يمنح الأقوى حق الرواية، ويترك الطرف الأضعف محاصراً بتهم مُعلّبة جاهزة للتداول.
هنا تتبدّى قيمة المقاربات التي طرحها «تودنهوفر»، «أوستينوف» و «مونكلر»: فالمسألة ليست توصيفاً أدبياً، بل تفسيراً سياسياً لاستراتيجية تُعيد صياغة المفردات كي تُبرر عنفاً وتقمع آخر.
جدلية الأخلاق والمعايير
يفتح هذا الجدل الباب أمام سؤال أخلاقي أوسع: هل يستطيع العالم إنتاج معيار واحد لتوصيف العنف، أم أن النظام الدولي سيظلّ مرهوناً لسياسة القوة التي تمنح الأقوياء امتياز إعادة تعريف كل شيء؟ من الحق إلى الأمن إلى الأخلاق.
كمثال معاصر على كيفية استخدام السلطة لتحديد معنى الإرهاب، قام ترامب عملياً بتصنيف فروع جماعة الإخوان المسلمين ضمن المنظمات «الأرهابية»، فيما وصف نتنياهو الجماعة بطريقة تهدف إلى ترهيبها وممارسة الضغوط السياسية عليها، فضلا عن إغلاق مكاتبها ومنع نشاطها في جُلّ الدول العربية.
وهذا يظهر كيف أن الأقوى هو الذي يمتلك السلطة لتسمية الأشياء وفق مصالحه.
إن أصواتاً يهودية ومعرفية بارزة، مثل «تشومسكي» تذكّر بأن نقد سياسات حكومية لا يمت بصلة إلى أي عداء ديني أو ثقافي، بل إلى مبدأ كوني بسيط: لا يجوز أن يتحوّل القانون إلى غطاء، ولا أن تُختطف اللغة لتبرير سطوة من يمتلك القوة.
وبين رواية تملك السلاح والهيمنة غير المحدودة والغطاء السياسي بالنفوذ والأدوات الإعلامية التي تحترف تزييف الحقيقة وقلب المفاهيم لتمكين الحرب على الوعي الجمعي، ورواية لا تملك غير الأرض والألم وفجيعة في الصباح والمساء وانعدام النعم، وخيانة القريب والبعيد، يبقى السؤال معلّقاً حتى إشعار آخر: من يملك الحق في تسمية الحقيقة؟ ومن يملك الشجاعة لقولها؟
Ahmad.omari11@yahoo.de



