الأردن ليس “جمهورية موز” حتى يتحكم بها الملحق التجاري الأمريكي
عبد الباري عطوان
تَدخُّل الملحق التجاري في السفارة الأمريكيّة في عمّان “الوقِح” في الشؤون الداخليّة الأردنيّة، واجتماعه بعدد من كبار رجال الأعمال والصناعة وتحذيرهم من العمل في سورية، وأي نوع من التّعاطي معها، مُهدّدًا بوضع من يعصى هذه “الأوامر” على القائمة الأمريكيّة السوداء، هو أسوأ أنواع البلطجة الذي يجب أن يتصدى لها الشعب الأردني قبل السلطة، لأنّ الأردن ليس جمهورية موز، واختراق سيادتها بهذه الطريقة يجب أن يكون خطًّا أحمر، تجنُّبًا للأسوأ.
الأردن ليس “جمهوريّة موز″، والملحق التجاري ليس مندوبا ساميًا، ولا يجب أن يكون، الأردن دولة قويّة بموقعها الجغرافي، ووحدتها الديمغرافيّة وشعبها المُبدع الوطني الخلاق وبالأوراق القويّة التي تملكها، ويكفي الإشارة إلى أنها تملك حدودًا طولها 600 كيلومتر مع الكيان الإسرائيلي المحتل، حدود ظلّت هادئة لأكثر من أربعين عامًا، فإذا كانت حدود غزُة التي لا تزيد عن 40 كيلومترًا باتت تشكل أرقًا ورُعبًا لهذا الكيان، فكيف سيكون حال الحدود الأردنيّة؟
الولايات المتحدة الأمريكيّة، وبضغط إسرائيلي، تمارس أبشع أنواع الابتزاز ضد الأردن وشعبه، وتريده أن يتحوّل إلى أداة لتنفيذ مشاريعها التخريبيّة المهزومة في المنطقة، مستغلة وضعه الاقتصادي الصّعب ودينه العام، وحاجته إلى المُساعدات الخارجيّة، وكل ما يهمها هو أمن دولة الاحتلال واستقرارها، حتى لو تحقّق هذا الأمن على حساب أمن الأردن واستقراره، وتجويع شعبه.
حرّضوا الدول الخليجيّة على الأردن، وأمروها بوقف كل أنواع المُساعدات الماليّة إليه، وعندما أراد الاعتماد على النفس وفتح أسواق جديدة مع دول الجوار السوري والعراقي والإيراني، أشهروا في وجهه البطاقة الحمراء، ووصلت وقاحتهم، وفُجورهم، واستكبارهم، إلى درجة “استدعاء” رجال الأعمال والصناعة وتهديدهم بعدم إرسال أيّ “محروقات” إلى الشعب السوري الذي يُعاني من أزمة خانقة في هذا المضمار، ومنع أيّ وزير أردني من زيارة دمشق.
الأردن مُستهدف أمريكيًّا وإسرائيليًّا ومن بعض المُطبّعين العرب، وزاد هذا الاستهداف عندما استضاف قبل أسبوعين مؤتمرًا لاتحاد البرلمانيين العرب، وأصر رئيس برلمانه عاطف الطراونة مدعومًا مع نظرائه في الكويت ولبنان على عدم حذف فقرة من البيان الختامي تُجرّم التطبيع مع دولة الاحتلال وتُحرّمه.
الأردن يعيش حالة غليان داخلي، وهيبة الدولة تتآكل، ونسبة الجوعى والعاطلين في تصاعُد، والاحتقان المُتضخّم بات في انتظار عود الكبريت للانفجار، ويبدو أن الملحق التجاري الأمريكيّ وحكومته تريد هذا الانفجار، بحسن نيّة أو سوئها، فإذا كان هؤلاء الذين اخترقوا النخبة السياسيّة الأردنيّة، وكتبة التقارير، وما أكثرهم في الأردن، لا يعرفون حقيقة الأوضاع الصّعبة في البلاد فمن يعرفها؟ وهل يُريدون هذا الانفجار لإسقاط الدولة الأردنيّة تمهيدًا لتنفيذ صفقة القرن، وأوّل بنودها قيام الوطن البديل بصيغة جديدة.
العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني يقوم بزيارة حاليًّا إلى واشنطن، هي الثالثة في أقل من ثلاثة أشهر، وهناك تكهّنات بأنّه يتعرّض لضُغوط مُتعاظمة للقُبول بصفقة القرن التي من المُتوقّع أن تُعلن تفاصيلها في آيار (مايو) المُقبل، أيّ بعد الانتخابات الإسرائيليّة، مصحوبةً بمُغريات ماليّة تُقدّر بمِئات المليارات، وما نعرفه، أنّه قاوم هذه الضّغوط، وشرح لمُضيفيه الأمريكيين خُطورتها على الأردن، ووحدته الديمغرافيّة واستقراره الداخلي، وهويّته الجامعة، ونأمل أن تستمر هذه المُقاومة وتتصلّب.
زُرت الأُردن في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والتقيت بمُعظم صنّاع القرار فيه، إن لم يكُن كلهم، علاوةً على العديد من رموز الشارع الأردني والطّبقات المسحوقة، وفوجئت “مسرورًا” بأنّ جميع أبناء الأردن، ومن شتّى المنابت والأصول، الأكثر رفضًا لصفقة القرن، وتمسّكًا بالحق العربيّ الإسلاميّ في فلسطين المحتلة ومقدساتها المسيحيّة والإسلاميُة، ومن البحر إلى النهر، والأكثر استعدادًا للفداء لوضع حد لهذه الإهانات الأمريكيّة والإسرائيليّة والخليجيُة، ولولا “أن المجالس أمانات” لكشفت الكثير من الحقائق المُذهلة والمُشرّفة في هذا الإطار.
كيل الأردن طفح، ولم يعُد يحتمل المزيد من الإذلال والهوان، ليس ذلك المُمارس ضدّه فقط، وإنُما ضِد كل الدول والشعوب العربيّة أيضًا، ولذلك لا نتردّد لحظةً في التّحذير من انفجار بركان غضبه الذي نراه قريبًا، بل وقريبًا جدًّا، وعندما يهتف الأشقّاء الجزائريّون أثناء احتجاجاتهم لفِلسطين وتحريرها ويرفعون علمها، في “تصحيحٍ” عفويٍّ لما يُسمّى بالموجةِ الأُولى من “الربيع العربي”، فإنّ هذا مُؤشّر عن حالة الصُحوة، وعودة الأولويّات الأساسيّة مُجدّدًا.
الحكومة الأردنيّة يجب أن ترد على إهانة هذا الملحق التجاريّ الأمريكيّ الوقِح، وأن توقفه عند حدّه، ليس بطرده فقط، وإنّما بالإيعاز للتجّار الأردنيين بعدم الاستماع لتحذيراته بالاندفاع نحو سورية الشقيقة، وإيصال المحروقات من غاز ونفط إلى شعبها، والمُساهمة في تحريك اقتصادها، والانخراط في عمليّة إعادة الإعمار حتى بأقل القليل، كعربون محبّة، والتزام ديني وأخلاقي، فالأردن مِثل فلسطين جزء عزيز من سورية الكُبرى، التي ستعود كُبرى فيما هو قادمٌ من أيّام، بسواعد شعبها وكُل الأشقّاء العرب بإذن الله.
في لقاءات مُتعدّدة مع الأشقاء في الأردن كنت أحرص على التّأكيد على حقيقة هامُة، وهي أن الأردن “سرة” المشرق العربي، وتشكل عامل استقرار، أو لا استقرار، في المنطقة برمّتها، وهذا أحد مصادر قوّته وقوّتهم إلى جانب المصادر المذكورة آنفًا، ولذلك لا بُد من تغيير كل السياسات القديمة “المُهادنة” التي أوصلت البلد إلى الحال الراهن المُزري، وسمحت للكثيرين بالتّطاول عليه وكرامة شعبه الأبيّ باعتباره “حيطة واطية”.
لا نعرف ماذا سيقول العاهل الأردني لمُضيفيه في واشنطن، ولكنّنا نتمنّى عليه أن يقول لهم “كفى” إذلالاً للأردن وللأمة العربيّة برمّتها، لأنّ هذا المارد إذا خرج من القمقم لن يعود إليه مُطلقًا، وسيُغيّر كُل المُعادلات في المِنطقة.
العاهل الأُردني قال لنا جملةً لا يُمكِن أن ننساها وهي “أن زمن التسوّل انتهى، وأنّ سياسة الاعتماد على الذات هي شعار المرحلة المُقبلة”، ونأمل أن تكون هذه العبارة هي جوهر رسالته إلى ساكن البيت الأبيض ومسؤوليه، ومن رفض كل الضّغوط والمِليارات معها، ونأى بنفسه عن حرب اليمن قبل أربع سنوات، وصحُت تنبؤاته في هذا المِلف، يستطيع أن يتّخذ الموقف نفسه ضِد صفقة القرن، والإملاءات المُهينة في الملف السوري، وما علينا إلا الانتظار.