#الأردن الكلمة الضّائعة
مصعب البدور
بين التّفكير في قضايا #العالم مِن جهة، والانشغال بأحوال المنطقة المحيطة بنا من جهة أخرى، اندمجت مشاعرنا وأفكارنا في دائرة اللّهب المحيطة بنا، ونسينا قضايا الأردنّ الأساسيّة، وتبخّر من أذهاننا ما يعانيه الأردن من صعوبات كثيرة لا تكاد تعدّ، كالفساد العارم الّذي يهدم كلّ المؤسسات، وكالبطالة والفقر المعشعش في بيوت كلّ مدينة وقرية أردنيّة، وكالعجز في الميزانيّة الّذي يطوّق الأردن ويخنقها، وكالأزمات اليوميّة في البنية التّحتية، وفي الصّحّة، وفي التّعليم على المستوى الشّعبي، أمّا على مستوى النّظام؛ فيعاني الأردن من #سياسات إدارة الملفات المحليّة متزامنًا مع وجود مخططات خارجيّة تستهدف خريطة المنطقة العربيّة بشكل عام، فإذا كان الأردن يعاني من ضعف إنجاز ملفاته الأساسيّة، وكذلك يعاني في كلّ مؤسّسة من مؤسّساته التّرهّلَ والفساد الإداريّ، ويعاني آثار المحسوبيّات والوساطة، ويشكو من مبادئ تفكير الشّعوب في خوض الحياة اليوميّة، وينزف الأردن من الارتفاع المتزايد في نسبة الجريمة، ويواجه قضايا عقيمة في الموارد الطّبيعية والماليّة بحسب الرّواية الرّسمية، وينافس الأردنّ العالم على ذيل القافلة، فكيف تنصرف عقولنا إلى التّفكير في غيره؟
في ظلّ هذه المعطيات – الصّارخة من كلّ ركن وزاوية: أن أفيقوا- مازال الأردن الكلمة الضّائعة، والكلمة الغائبة عن قاموس إدارة الدّولة الأردنيّة، والكلمة التّائهة في ثقافة المواطن الأردنيّ، وفي هذه المعمعة بقي الأردن خارج إطار التّفكير المرجعيّ لكلّ مكوّنات الأردن الرّسمية والشّعبية، والشّواهد على ضياع هذه الكلمة ماثلة للجميع، فالجهات الرّسمية تسارع في تسجيل المواقف إدانة أو استنكارًا أو تأييدًا للأحداث العالميّة، وتتباطأ في حلّ الملفّات العالقة على الصّعيد المحليّ، و تجد القنوات التّليفزيونيّة تُكرّس بثّها للأحداث العالميّة السّاخنة كالحرب الرّوسية الأوكرانيّة الدّائرة الآن، أو العلاقات التّركيّة مع العدوّ، أمّا الحوارات الشّعبيّة محورها السّياسات العالميّة والقوى العظمى وموقفها من روسيا، وعن فرط استعمال القوّة الرّوسيّة، ونهاية تخلّي أوكرانيا عن أمّها وسعيها الدّائم للالتصاق بأوروبا، وترى المتحدّثين عن الانحياز العالميّ ضدّ العرب، ومحورها الآخر الهجوم على الحكومة التّركية وأشخاصها وسلوكها، و شهدنا حملة انتقادات واسعة في مواقع التّواصل الاجتماعيّ تستهدف تصريحات الصّحفيّين والسّاسة في الغرب الّذين يدينون أصغر الأحداث حول العالم و يباركون و يشاركون في تعزيز مجريات الفوضى العربيّة.
أما ما يلفت الانتباه، فالانقسام الّذي يحصل في الجلسات والحواريّات في الأردن، ففريق منشغل بالدّفاع عن الرّئيس التّركيّ أو الرّئيس الرّوسيّ، وآخر ينظم الهجمات المتتالية عليهما،
وفريق ثالث يراقب ويصنّف: هذا في صفّ التّجربة التّركيّة الحديثة، وهذا ضدّ التّجربة التّركية، أمّا هذا ففي صفّ روسيا، وهذا في صفّ أوكرانيا.
وفريق رابع جاهز لحملات السّخريّة ووضع ملصقات الكوميديا والإضحاك على حوائط التّواصل الاجتماعيّ، يتندّر بمجريات الحرب واللّجوء والتّشرّد.
ولا ننسى في هذا المقام الفريق الأغرب (فريق المعجبين)، وهذا الفريق وظيفته الإعجاب برؤساء الدّول وبيان مآثرهم، والتّدليل على نقاط قوّتهم، وتحليل شخصيّاتهم، ونقل برامجهم العمليّة الحقيقيّة والموهومة.
ولدينا الطّرف المقابل (الفريق الغاضب) أفراده يعيشون شخصيّة (سنفور غضبان) -الّذي يكره كلّ شيء حتى المشاعر النبيلة- وهذا الفريق متحفّز لانتقاد السّاسة والسّياسات والأحداث، وتجريم فريق المعجبين. وهذه الظّواهر ربما تكون خاصّة بالوطن العربي (التّأييد غيبًا دون داع أو منفعة، والمعارضة غيبًا دون داع أو منفعة).
إنّ هذا التّعقيد الممزوج من المعاناة الأردنيّة والأحداث العالميّة مع غفلة الموّكنَيْن الرّسميّ والشّعبيّ في الأردنّ، يحتّم علينا التّفكر بالدّاخل الأردنيّ، وتقديم مشروع يبدأ مِن تربية أبنائنا ليكونوا هم الشّخصيّات العالميّة في المستقبل، وينتهي عند حزمة إجراءات تنمويّة للاقتصاد والإنسان ليستقيم الاقتصاد الوطنيّ ويستقر الدّاخل الأردنيّ وتتحرك قطاعاته، وتُدعم نهضته، ويبني تعليمه وينهي حالة الأمّيّة المقنّعة المتفشّية، ويفتح أفقًا جديدًا أمام القطاعات الطبيّة، وينهض بالسّوق التّجاريّة ويؤسّس سوق العمل بناء على ما يحتاج الوطن لنهوضه، ويحدّد مسار التّعليم الجامعيّ بناء على حالة سوق العمل، و ينهي حالة التّصاعد المستمرّ في الأنماط الاستهلاكيّة، ويحدّ من حالة انخفاض الإنتاجيّة الحقيقيّة للآن.
إنّ الأردن يحتضن ما يزيد على تسعة ملايين من المحللين السّياسيّين والمنظّرين الاقتصاديّين والفقهاء القانونيّين، تجدهم في السّهرات اللّيلية و(التّعاليل) العائليّة أيام الصّيف والشّتاء يعقدون حواريّات تتوزعّ مادّتها النّقاشيّة بين التّحليل المستمر للأحداث السّاخنة، والوضع الاقتصاديّ العالميّ، و يداخل هذه الحواريّات لعب الورق، ومناقشة ملفات ثقيلة مثل الملف الإيرانيّ، والملف التّركيّ، ويصل الحديث في كثير من الأحيان إلى مسلمي الأيغور، وقد يشارك بعض خبراء شعبنا الكريم بالحديث عن الفساد والبطالة والتّرهل، لكن المشكلة الكبرى أنّنا لا نتجاوز الكلام إلى التّطبيق، فالحّلول النّظريّة متاحة، وواقع الحال يكشف عن تأخّر مُعْضِل.
إن كلّ ما نعاني منه له أسباب عميقة، واحد من هذه الأسباب أنّ الكلمة المفتاحيّة مختفية عن خريطتنا المفاهيميّة حكومة وشعبًا، وتتهاوى من قواميسنا العملية، ولربما تتلاشي من قواميس نفوسنا ونفوس أجيالنا القادمة.
وتجدر الإشارة إلى أنّنا لا نحثّ على ترك الحديث في الشّأن العام مِن أحداث العالم، ولا نقلّل من الدّماء البريئة، ولا نتغافل عن الأحداث الدّائرة حولنا، لكنّنا ندعو الجميع الى ضبط بوصلته إلى نقطة مرجعيّة من شأنها تحسين الوضع القائم، وهي الأردن، فإذا ناقشنا الحالة الأردنيّة واتّجهت بوصلة العمل إليها يستقيم داخله، وبعدها نوسّع الدّائرة بالتّعاطي مع القضايا الإقليميّة والدّوليّة والعالميّة.