الأخلاق و التشريعات / د . هاشم غرايبة

كثيرون جدا هم من يغفلون عن حقيقة أن كافة القوانين و التشريعات البشرية ، لا تتعامل مع الطبيعة البشرية بالتحفيز على الصلاح والتشجيع على الإستقامة بل تورد عقوبات على الأفعال المنحرفة أو الخاطئة .. مما يعني معالجة الخطأ بعد وقوعه وليس درؤه لمنع وقوعه .
للتوضيح : لايوجد أي نص قانوني يلزم الدولة بمكافأة من ينقذ حياة شخص أو يخرجه من ورطة أو يزيل أذى أصابه أو حتى يواسيه في مصاب أصابه ، بالمقابل ليس هنالك نص رادع يمنع فعل الغيبة أو النميمة أو الإيذاء ، بل ترك الأمر لمن لحق به الضرر أن يقاضي الفاعل إن أراد ، لكنه إن لم يفعل لا يُلاحَقُ ذلك الشخص المؤذي بل يُترك سادرا في غيِّه ، ولا يستطيع شخص آخر أن يقاضيه من باب الإنتصار للأخلاق أو الآداب العامة لأن القانون يشترط تضرر المصلحة الشخصية للمشتكي ، وأما الحق العام فهو في تضررمصلحة المجتمع على العموم .
التشريع الإلهي ( الدين ) راعى هذا الجانب الهام ، لأنه فطن إلى أن معالجة الأمر قبل وقوعه أنفى لوقوع الضرر ، وقال أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع ، لذلك اهتم بتربية النفس الإنسانية وتقويم انحرافها بالترغيب والترهيب ، فجاء الوعد بالثواب حافزا لعمل الخير للآخرين وجعل وحدة التقدير” الحسنة ” حيث يتم تقديرها بمقدار النفع الذي ينال المجتمع أو حتى بمقدار السعادة التي يضفيها على الإنسان ، بدءا من التحية والإبتسامة ارتقاء الى المساعدة المادية ، وصولا الى إنقاذ حياة ذلك الشخص ، كما أن الجائزة تتضاعف كلما عم النفع آخرين ، أو حتى كان قدوة لآخرين بتوسيع دائرة العطاء .
وينطبق ذلك المقياس عند القيام بما يزيل الضرر عن الآخرين وبنفس طريقة الإحتساب ، وبالمقابل تقابل الأفعال التي تلحق الضرر بالآخرين ، باحتساب وحدة ” السيئة ” ، وتُقدّر بنسبة طردية مع تعاظم الضرر .
الفارق الهام الآخر في التشريع الديني ، أنه يتعامل مع النية ومع الفعل كأمرين منفصلين ، فالنية لعمل الخير تحتسب حتى لو حالت ظروف دون فعله ، وإن تم الفعل تحتسب بعشرة أضعاف ، أما النية بالشر فلا تحتسب إلا إذا نفذ العمل ويحتسب ” سيئة واحدة ” ، وذلك من باب التشجيع على عمل الخير ، وتقليل القنوط في نفوس الخاطئين وتحفيزهم على التوبة .
كل أصول التعاملات الشخصية القويمة بين الناس والعلاقات المجتمعية فُصّلت بتشريعات قرآنية وليست بالسنّة النبوية ، لأنها قواعد أخلاقية مطلقة ، وأسس تأسست عليها الطبيعة البشرية ولا تتغير مع الزمن ، وما لم يذكر في القرآن الكريم ليس إغفالا لها ، بل لأنه متغير نسبي ، خاضع للتعديل والإجتهاد حسب المكان وتطور الإنسان : مثل نظام الحكم وأسلوب إختيار الحاكم وأنظمة الإدارة والعلاقات الدولية .
سأورد مثلين فقط : الأول هو ” التطفيف ” أهم نقيصة إنسانية ، وهي التعامل مع الآخرين بمكيالين وإبخاس الآخرين حقهم ، ورد النهي عنها في ثلاث آيات ” ويل للمطففين ( 1 ) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ( 2 ) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ” وهي سبب كل الظلم والنزاعات والحروب في كل الأزمنة ، لن تجد أي تشريع بشري عالج هذه المشكلة ، ولن تجد نصا يقاربه بلاغة وشمولية .
المثل الثاني : في النص القرآني ” ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا ” ، هل نجد نصا في تشريع آخر ، تعرض لهذه المسألة الإجتماعية الخطيرة .. ، الإسلام يمنع التجسس على الآخرين قطعيا ، أي أنه لا وجود للمخابرات وأجهزة أمن النظام فيه وكل ما هو متخصص في حماية الحاكم ونظام حكمه ، لكن ذلك لا يشمل الأمن العام الذي يحفظ أمن المواطنين .
تخيل لو طبق ذلك فقط كم ستنخفض النفقات ، وكم ستوجه جهود هائلة نحو خدمة الناس بدل مراقبتهم ، وكم من ظلم سيزول عن الذين يشتبه بعدم ولائهم للحاكم ! ، الحكم الإسلامي الراشدي ( وهو الذي يمثل النظام الإسلامي) لم يعرف أي تمييز للحاكم عن غيره ناهيك عن حراسته وحمايته ، فالبدوي الذي دخل على الرسول الكريم ( ص ) بين صحبه فسأل أيكم محمد ، والذي قصد عمر وجده نائما تحت شجرة .. لكن حينما تحول الحكم الى العضود منذ عهد معاوية ، بدأ اصطناع العسس والحجاب والمخبرين السريين لتأمين انتقال الحكم الى الأبناء .. لم يعد النظام إذ ذاك إسلاميا .
الخلاصة : في ما أسلفنا يتبين كم هي الشريعة متفوقة على كل الإجتهادات البشرية مجتمعة ، وكم هي متهافتة هزيلة حجة أولئك الذين يدّعون عدم قدرة الإسلام على تلبية الإحتياجات المعاصرة .. بل على العكس فهو التشريع الوحيد الذي لديه إجابة على كل سؤال يسأل أو سيسأل في المستقبل ، ولا أدل على ذلك من أنه بخلاف التشريعات الإنسانية المحكومة بالمتغيرات الظرفية ، بينما هو متكامل محكم في المطلق … ومرن متطور في النسبي .
* للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه أو على رقم التعريف : 644864265574607

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى