اغلاق المساجد وذريعة منع العدوى / د نبيل الكوفحي

اغلاق المساجد وذريعة منع العدوى
د نبيل الكوفحي

في ظل القرار المبكر للحكومة بالإبقاء على إغلاق المساجد في شهر رمضان بعد مضي اكثر من شهر ونصف على إغلاقها، واختلاف الناس حول صواب ذلك القرار في ظل الظروف العالمية والمحلية لانتشار فايروس كورونا، تبرز أسئلة ملحة حول تقدير المسؤولين لحاجات الانسان المختلفة: كالتغذية الجسدية، والحفاظ على الصحة، والعمل والحصول على المال، والاجتماعية وغيرها، فلربما نسي القائمون على اتخاذ القرارات حاجات الانسان الروحية كضرورات لا تستقيم حياة الفرد والمجتمع الا بها كالصلاة مثلا، ومنها صلاة الجماعة في المساجد، فهي ليست ترفا روحيا للفرد ولا نافلة مجتمعية، فهي ضرورات أساسية للإنسان والمجتمع، يعزز من خلالها الإيمان والاستقامة والعمل الصالح والتعاون على البر والتقوى، فليس بالخبز وحده يحي الإنسان.
القرار كان في بدايات الحظر منع صلاة الجماعة في المساجد منعا لانتشار العدوى، وله أدلة شرعية استندت الى مقاصد الشريعة في حفظ النفس، كما أن الأصل في الشريعة الإسلامية وأحكامها ما جاء في قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر)، وقوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). كما استندوا الى ما ورد في السيرة انه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في بعض الاحوال الجوية ان ينادي بالناس للصلاة في رحالهم أي في منازلهم , حيث كان يضيف المؤذن في نهاية الاذان: الا صلوا في رحالكم , وهذه رخصة للصلاة في البيوت, كما هو الحال في صلاة الجمع في المطر والسفر وغيرها من الرخص. كما استند بعضهم الى قواعد فقهية منها: الضرورات تبيح المحظورات، قوله تعالى (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه)، والضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف.
نناقش هذا الان بعد شهر ونصف من اعلان الحظر واغلاق المساجد. لئن كان أصحاب القرار في البداية متخوفين من انتشار العدوى، فان الأمر بدا واضحا الان: محدودية انتشار المرض، كما أن المالات المستقبلية لانتشاره ضمن تقديرات العلوم المختصة في الصحة والتحليل الاحصائي والاحتمالات تبدوا مطمئنة . لذا فالأمر من وجهة نظري بحاجة لإعادة نظر، ففي ظل استقرار الوضع الصحي العام في البلاد، ونجاح المواطنين في السلوكيات الصحية الآمنة، ونجاح مؤسسات الدولة في محاصرة بؤر الإصابات بمستوى جيد جدا، حيث أصبح عدد المتعافين أقل من عدد المصابين، ومنحنى تحليل الاصابات أخذ بالهبوط بعد صعوده، وان قدوم المسافرين من الخارج (مصدر العدوى الاساس) قد توقف، ومن قدم قد خضع لحجر صحي وفحص. بالإضافة أن قدرات الامكانات الصحية للفحوصات في توسع، وأن المسوحات العشوائية لاستكشاف الاصابات ذات مؤشرات ايجابية (فحوصات سلبية تقترب من 100%)، بالإضافة لتزايد القدرات العلاجية والاستيعابية للمؤسسات الطبية المحلية.
لا أحمل شهادة اختصاص في علوم الشريعة، لكن من عظم هذا الدين: أن فهم احكامه وسبر أغواره متاحة، بل مندوبة لكل قادر على التفكير والتحليل. ما نناقشه هنا أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة، ففي فقه التشريع: الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، أي أن الشيء الذي يجوز بناء على الضرورة يجوز إجراؤه بالقدر الكافي لإزالة تلك الضرورة فقط، ولا يجوز استباحته أكثر مما تزول به الضرورة. وفصل بعضهم بتعريف الضرورة على أنها الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعا .أما الحاجة فإنها وإن كانت حالة جهد ومشقة فهي دون الضرورة. فالاضطرار إنما يبيح المحظورات بمقدار ما يدفع الخطر. ولا يجوز الاسترسال فيه لا مكانا ولا زمانا ولا حالا لغير ضرورته، وأصل هذه القاعدة ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى: كل ما أحل من محرّم في معنى لا يحل إلا في ذلك المعنى خاصة، فإذا زال ذلك المعنى عاد إلى أصل التحريم، قال تعالى أيضاً: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
أعتقد ان حرمان الناس من صلاة الجماعة في المساجد خاصة في شهر رمضان تحت مبررات شك لمنع العدوى مبالغ فيه جدا، شهر دأب المسلمون على انتظاره كل عام، يجتهدون فيه بالعبادات والطاعات وأعمال الخير، كيف لا والله تعالى يقول فيه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ). فاختلاط الناس في المساجد ليس أكثر ضررًا – إن كان هناك خطر- من اختلاطهم في المولات وهي أماكن مغلقة، واختلاط المساجد قائم لذات أهل الحي، وهناك ما يزيد على ٩٩٪ مِن الأحياء حول المساجد لم تشهد إصابات مطلقا، بل هناك قرى ومدن ومحافظات لم تشهد أي إصابة ولله الحمد.
عودة للقواعد الفقهية التي تعيد التوازن في اتخاذ القرارات مقابل القواعد سالفة الذكر التي قامت على التحوط ابتداءً، فالقاعدة الفقهية: اليقين لا يزول بالشك) أو (لا يزال، (أو) لا يرفع. هذه القاعدة من أصول أبي حنيفة رحمه الله وقد عبر عنها بقوله: أنه متى عُرِف ثبوت الشيء من طريق الإحاطة والتيقن لأي معنى كان فهو على ذلك ما لم يتيقن بخلافه. وهي الأصل الأول من أصول الإمام الكرخي وعبر عنها بقوله: إن ما ثبت باليقين لا يزول بالشك. ودليل ذلك قوله تعالى) :وما يتَبِعُ أكثرهُم إلا ظناً إنَّ الظن لا يغني من الحقِ شيئاً) .( يونس، آية (36 . وقد عرف الفقهاء اليقين: جزم القلب مع الاستناد إلى الدليل القطعي. و الاعتقاد : جزم القلب من غير استناد إلى الدليل القطعي، ومثلوا له باعتقاد العامي. أما الظن: تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر، وأما الشك: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
لست صاحب قرار بالفتوى ولا بالإدارة العامة، كي ادعوا المواطنين الى عمل محدد، لكنها محاولة للتفكير خارج الصندوق، ونصيحة لأولى الأمر من أصحاب القرار كواجب شرعي، ننصح به كما نصحنا في جوانب اخرى لتجاوز المشكلات الناجمة عن الحظر بأبعادها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، كما هي دعوة للعلماء المختصين بالشريعة والمختصين بعلوم الصحة العامة أن يتحاوروا ويخلصوا بنتائج متوافق عليها لدرجة كبيرة، تقدر مصلحة الخلق وحاجتهم الروحية والنفسية للمساجد خصوصا في شهر رمضان، مع ضرورة أخذ الاحتياطات الصحية اللازمة، أو البقاء على قرار الحكومة في حال اليقين او حتى الظن بانتشار العدوى وليس الشك او ربما أقل منه.
أعتقد لدينا ما يكفي من الوقت قبل رمضان للحوار وايصال الاجتهادات لأصحاب القرار، خاصة في ظل مؤشرات مشجعة على التعافي. وعلى أصحاب القرار الاداري منهم والشرعي كذلك ان يدركوا قدرة أصحاب اختصاص أخرين في الوطن على التفكير وتقدير المصلحة العامة، وفي النهاية فان الرجوع للحق في حال بيانه فضيلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى