اسألوا فدّان وصفي…

اسألوا فدّان وصفي…
جمال الدويري

لم يكن هارفارديّا, ولم يكن سُوربونيا, ولم يكن أكسفورديّا, بل كان تقيّا مسلما, أردنيا وطنيّا عُروبيّا قوميّا إنسانيّا صادقا نقيّا, نهل علمه في حاضرتين عربيتين بلسان غير ذي عوج, واختط دربه منذ نعومة اظفاره متفانيا في خدمة الثوابت الأردنية وقضايا الأمة, حتى قضى شهيد هذه الثوابت والقضايا.
رحم الله الشهيد وصفي التل الذي اسر الملايين بالصادق الطيّب من المبادئ والنيّر من الفكر والكريم من الخلق.
وعندما نستذكر الشهيد ونستحضر مناقبه وحاجة الوطن له, فإننا لا نرميه بوجه احد, كما اشتكى البعض لأن الميزان هنا يفتقد للمنطق والعدالة, ولا نريد تقييم احد بالمقارنة به فالبوْن شاسع, ولكنها شكوى اليوم للأمس وذكّر ان نفعت الذكرى.
وانها صرخة وطن واستغاثة التراب الذي هجرته السنابل ونضارة المروج, وبجّت بكارته الطاهرة خوازيق الإسمنت وموميات المدنيّة الزائفة من الحجر, حتى عجزت مجتمعة, بعد وصفي, على ملء كوائر الأردنيين وموائدهم من خير تعبهم وعطاء أرضهم,
لقد منع الشهيد وصفي التل البناء في الأراضي الزراعية, ومنع التشجير الا في الجبال والعصيّ من الارض, وقد علّم ذات سنة يباب, اكبر مانح دولي للأردن, درسا بالوطنية والثقة بالنفس, وتحداه بحب الأرادنة لوطنهم وانهم لا يبخلون عليه بالعمل والجهد والتعب, فاشترى لهم البذار فزرعوا, حتى فاض الوطن بالخير واكتفى منه الأهل حتى صدّروا للأشقاء والأصدقاء, في حين يرموننا اليوم بما يسمى بثقافة العيب التي لا توجد الا في خيالهم وفكرهم لإحباطنا وتحميلنا مسؤولية اخفاقاتهم وعقيم تخطيطهم, فإي ثقافة عيب يدّعون ومنّا عامل الوطن المتعلم, وحامل الشهادات الجامعية سائقا وعاملا, بل ومنا من تقاعد من أشرف مؤسسة وطنية اردنية برتب وصولجان, يكسبون رزقهم اليوم حرّاسا على ابواب شركات الاقطاع وأصحاب الكروش وأغنياء الغفلة.
اما وقد ارتسمت في الأفق صورة توجّه واضح للزراعة, بعد ان كان غورنا في حقبة الكورونا, قارب النجاة للوطن, فمدّ الأهل بما خفف عليهم السؤال وأبعد موائدهم عن الحرمان التام, وبقيت الأسواق تعجّ بمختلف الخضار وتزدحم بأصناف الفاكهة, فإنها الشهادة لوصفي بالحكمة السياسية والاقتصادية وحسن الإدارة وبعد النظر, وإنها الشهادة لمن يستذكرون وصفي بعد عقود من غيابه, بأنهم الأصدق تقديرا لرسالة وصفي وفكره ونظافة ذات يده.
وطالما ان خريجي هارفارد وأخواتها, قد اخفقوا بإخراج الوطن من مطبات صنيع ايديهم من التخبط وسوء الإدارة وإهمال الزراعة الوطنية وتأمين لقمة عيش المواطن بسواعده ومن خير ارضه, حرصا على امنه الغذائي وسيادة قراره السياسي الذي لا تغتصبه باخرة قمح ملوثة ولا تصادره سفينة خراف لم ينجح بها احد, وطالما ان هناك ما يبشر بنهج زراعي جديد يقتدي بما اراد وصفي وارتأى, فلا غرو ولا بأس ان تفتحوا ايها السيدات والسادة ارشيف وصفي وما في أدراج حكوماته الخمس التي نجحت, وبأصعب الظروف وأدقها بالحفاظ على اردنّ منتج معطاء لا يبتزه مترصد ولا يفرض عليه مانح.
نعم…لقد حان الوقت للصدق مع الذات والاستغاثة بفكر هذا الرجل ولنستدعي خططه ومشاريعه العملاقة واستراتيجيته وتكتيكه الذي يحترم الارض ويعطيها فتعطيه. افتحوا صناديق حكوماته الزاخرة بالناجع من الحلول, والثابت من رياضيات الوطنية في الإكتفاء الذاتي من السلع الغذائية التي لا استغناء عنها.
ومع اهمية الخضروات والفواكه للحياة, فإنه لن تستقيم الأمور ولا تستوِ المعادلة, دون الحبوب, قمحا وشعيرا وعدسا وحمصا وفولا وسمسما وغيرها, ورغم اعدام الكثير من مساحاتنا الزراعية بخوازيق الإسمنت كما سلف, فإنه ما زال هناك في الوطن بين جهاته الاربع, مئات آلاف بل ملايين الدونمات التي تستطيع تحقيق الهدف الاستراتيجي والاكتفاء الذاتي من الحبوب والثروة الحيوانية والاستغناء عن الاستيراد وخسارة العملة الصعبة وارهاق الميزان التجاري الى حدود خطيرة غير حميدة.
وبما ان الاعتراف بالخطأ فضيلة, فإن الرجوع عنه وتصحيح المسار لفضيلة أخرى, فلا تأخذكم العزة بالإثم, وبادروا بلا تأخير لسؤال (فدّان وصفي) وأسلوبه وطريقته التي اثبتت نجاعتها وأبهرت بجدارتها.
وبهذا السياق, فإن الأردن لم يعد يحتمل نهج الإقطاع وتجار الزراعة ومحتكريها, الذين يستغلون العاملين ويستنزفون المخزون المائي النادر لمزارعهم الضخمة التي يُصّدر انتاجها لمصالحهم الشخصية دون ان يستفيد الوطن حبة تفاح او كيوي واحدة, ما يحتاجه الأردن اليوم والغد, هو زراعة شعبية مكثفة بسواعد اردنية لا تفتقر للمعرفة والحرفية, الرافدة لأسواقها الشعبية المباشرة, التي لا يفصلها عن المستهلك ديناصورات الأسواق المركزية والتصدير ومافيات السمسرة الوافدة ومن خلفهم تجار السياسة وداعميهم من اباطرة الزراعة السياسية.
الأردن اليوم بحاجة ردّة عميقة على الأفوكادو والاسكدنيا والفراولة لحساب القمح والشعير والعدس, وردّة مشابهة اخرى على من هددوا الأرادنة ذات وقاحة بزفر جمعتهم ودسم عيالهم, لحساب مربّي المواشي الوطنية ودواجنهم.
ولعل من هزته الضرورة والحاجة الوطنية للصحوة والتغيير ان لا ينسى باقورتنا وغمرنا من بعض الجهد وإعادة التأهيل. ولا تنسوا ان هناك عشرات الاف الشباب القادر على تنفيذ الخطط الزراعية, المتوثب للعمل والإنتاج, اعطوهم ارضا ومشورة وبذارا, وخذوا وطنا سيدا مستقلا بأمن غذائي لا يهتز. وليس بوادي السيليكون والروبوتات ومئات المبادرات الافتراضية وحدها يعيش الإنسان وتحيا الأوطان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى