# إنعاش #الذاكرة
د. #هاشم_غرايبة
رغم المصائب العظام التي جرتها الأنظمة العربية على الأمة جراء الهزائم المدبرة أمام الكيان اللقيط لتأمينه وحمايته، فلا زال هنالك من يعلق عليها الآمال في إحداث التقدم المأمول الذي وعدت به شعوبها غداة تسليمها الحكم من بعد إسقاط الدولة الإسلامية.
يتألف هؤلاء من فريقين: مخادعون ومخدوعون، فالمخادعون فهم من الملأ المحيطين بالسلطة والجوقة الراقصين حولها، كونهم مستفيدين من إنعاماتها، ومستفردين بعطاياها، فلا يحقق لهم المكاسب الجزيلة غير نظام فاسد مفسد، بلا جهد إلا التصفيق، ولا كفاءة الا التزلف.
أما المخدوعون فهم الشعوب الغافلون: فشعوب الدول النفطية تقوم الأنظمة برشوتهم بالفتات القليل مما ينهبونه من الثروات التي حبا الله بها أمتنا لكي تؤمن بها استقلالها واستغنائها عن غيرها، لكن الحاكمين نهبوها وكنزوها، وأنفقوا القليل منها على الشعب الذي اعتقد لجهله أن ارزاقه موكولة إليهم، لذلك ركنوا الى الظالمين وسكتوا عنهم.
أما شعوب الأقطار الأخرى، فلها موارد أخرى كثيرة لكن فساد المسؤولين وفشلهم أضاعها، فأفقروا شعوبهم، ولكي يأمنوا المحاسبة جعلوا قصارى همها تأمين لقمة العيش، فأسكتوها بالتجويع والقمع.
سأذكر مثالا واحدا يبين أن فشل هذه الأنظمة، ليس بسبب فسادها وعفونتها فقط، بل هو تآمر منها، تنفيذا لإملاءات مقصودة بهدف إضعاف مناعة الأمة، وحماية للكيان اللقيط، الذي يشكل المخلب المتقدم للغرب المستعمر.
إنه قصة الخط الحديدي الحجازي الذي كان يصل أقطار الأمة الشرقية ببعضها، فيربطها وحدويا وينميها اقتصاديا، حتى جاء أدعياء الوحدة والقومية، فقطّعوا ما كان متّصلا، ودمّروا ما كان نافعا.
تعود القصة الى عام 1900 حينما قرر السلطان عبد الحميد الثاني بناء خط سكة حديد يصل الى مكة لتسهيل الحج على المسلمين من ناحية، ولتدعيم الجامعة الإسلامية للأمة للتوحد في وجه الأطماع الإستعمارية البريطانية التي كانت بادية للعيان.
رغم الصعوبات المالية التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية آنذاك، فقد تمكن السلطان من تأمين كلفة انشاء هذا المشروع الإستراتيجي، والأهم للمنطقة في تاريخها.
كانت الكلفة 4.3 مليون ليرة ذهبية أي ما يوازي ملياري دولار بسعر اليوم، تم تدبير جزء من المبلغ من تبرعات مسلمي الهند باكستان وإيران وآسيا الوسطى، أما مصر فساهمت بمواد عينية إضافة الى أن التنفيذ والإشراف كان من الجيش العثماني، وكان المصمم هو المهندس الألماني “مايسنر”، واكتمل المشروع من دمشق حتى المدينة المنورة في ثماني سنوات.
فرح المسلمون كثيرا، فقد كان طريق الحج المصري عن طريق سيناء يستغرق أربعين يوما، فيما يزيد خمسة أيام أخرى عن طريق حلايب، أما العراقي فكان يستغرق شهرا والشامي أربعين يوما، أما بالقطار فأصبح يستغرق 72 ساعة فقط.
اغتاظ الإنجليز، إذ كان ذلك يفسد خططهم لأن أكثر ما يوحد المسلمين هو الحج، لذا فقد ضيقوا على المتبرعين، كما حرض لورنس البدو الموالين للشريف حسين على تخريب السكة ونهب القضبان.
لم يعمل هذا الخط سوى تسع سنوات، وكان من المكاسب الأخرى إنارة المدينة المنورة بالكهرباء، وكانت النية أن يستكمل الى مكة، لكن قيام الحرب العالمية الأولى أجهض المشروع.
بعد إسقاط الدولة العثمانية كان أول عمل لقوات الإنتداب وقف القطار عن العمل، والتزمت الأنظمة الحاكمة في الأقطار التي ورثت الدولة الإسلامية بذلك وما زالت الى اليوم.
لعل أكبر عار وخزي وصمَ هذه الأنظمة، هو تعطيل هذا الخط وإعاقة أية محاولة لإعادته الى العمل، رغم أن البنية الأساسية متوفرة ولا يحتاج إلا الى القرار، والجدوى الإقتصادية منه بادية للعيان.
إن المتابع لأعمال اللجنة العربية المشتركة لإحياء المشروع والمؤلفة من وزراء الإتصالات في سوريا والأردن والسعودية والتي اجتمعت منذ عام 1945 حتى 1987 مرتين فقط، يشعر أنها تتعمد إضاعة الوقت، وكأنها بانتظار (الشريك الإستراتيجي) الخفي الذي لم يحن وقت مشاركته بعد وهو الذي بيده مقاليد الأمور.
ما يشير الى ذلك أنه في عام 2014 أنجز تنفيذ مشروع سكة حديد بين حيفا وبيسان، وتوقف الخط عند نهر الأردن، بانتظار استكمال مسلسل التطبيع.
الآن وبعد الإعلان عن نية انشاء الجسر البري بين دبي وحيفا، انكشف سر تعطيل المشروع كل هذا الوقت، لأن الخط الحديدي لا يراد له توحيد الأمة ونفعها، بل لتعزيز تغلغل وسيطرة العدو.