إنتحرت ولم أمتْ…

إنتحرت ولم أمتْ…
جمال الدويري

وأعتذر ايها السادة الأفاضل,
فربما أزعجت هدوء استراحتكم بجهالتي, وحّركت ما تبقى من ضمائركم السابتة في موت عميق, أردت الاقتراب من جثامينها الثاوية في البعد, ولو في عالم آخر أبعد وأجدى وأكثر نقاء وعدالة ورفقا.
وصدقوني انني لم أكن قاصدا باختياري للحريق اسلوبا للرحيل, ان ارفع في أجوائكم اللاهبة هذه الأيام, درجات حرارة مكاتبكم الفارهة, فإنني اعلم انكم قد اخذتم لهذه الإحتياطات اللازمة, واخترتم لذلك افضل انواع التكييف بأغلى التكاليف.
وأعتذر, ايها السادة الأفاضل, انني انتحرت ولم أمت, وكيف يموت من لم يعش اصلا, وكيف تنتهي حياة من ليس على قيد الحياة, وكيف ينتقل الى عالم البرزخ من يقيم اصلا في ظروف برزخية كل سنينه وأيامه,
وكيف يموت ايها الأفاضل, من يُقتل كل يوم, من يُغتال حلمه وطموحه, بل من لا يسمح له بالحلم والطموح, من يحمل كرامته على كفه صبح مساء, عند باب كل حافلة جامعية, وعند كل استحقاق قسط جامعي, وقبل كل امتحان ليس متأكدا من امكانية الحصول على بطاقة المشاركة به, او السقوط عن أطراف اسواره العالية, محروما من بركات اولياء نعمته وحراس حساباته,
وكيف يحق لمثلي, من لا فلس ولا دينار له, تقرير مصيره واختيار ما يتقذ إخر قطرة ماء في بحر حيائه, ويوفر على نفسه وروحه وباقي حواسه, عبء اللهاث خلف ذواتكم الكريمة, بين الممرات الى مكاتبكم وأمام ابوابكم, ومتسللا بين حراسكم وفتوّاتكم والقائمين على عدم إزعاج عوالمكم الرفيعة العالية التي تنظرون منها الى الأرض وكل (الأحاميد) امثالي بتجاهل واستخفاف وقسوة, ومن لم يمت على ابوابكم الموصدة, فسوف يقضي على ابواب ديوان الخدمة المدنية او متعثرا في السجون وعلى هامش الحياة, خلف الحدود والغربة, حيث تكون شهادته الجامعية الرفيعة شاهدا لقبره, ان كان له نصيبا بقبر وشواهد.
تمشون على الأرض هونا معتقدين ان من جاء يخاطبكم جهلاء لا يستحقون سلاما, وقد نسيتم انكم كنتم ذات حقبة مضت في مواقعهم وربما في ظروفهم.
وكيف لكم اصحاب الطلة البهية وخير من فهم القضية, ان تهبطوا بألقابكم السنيّة لمقابلة الهبر او بعضا من رهطه, وهم لا يرتدون الفراء البجدلية, هؤلاء العامة من الشعب الذين لا يملكون ثمن صكوك الغفران, ولا يستخدمون البطاقات الذهبية لإشباع جشعكم وأتواتكم الدسمة,
وأعتذر ايها الأفاضل عن عرارنا رحمه الله, الذي لم يستطع الوصول بكلماته, رغم بلاغتها ووضوحها, الى صميم فكركم المتخلف المغلق, لتفهموا انكم انتم من تدمرون الوطن العزيز وتذبحون به كل عزيز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى