إعادة ترميم البنية السيكولوجية للمواطن الأردني : المدخل السياسي الرشيد لهندسة العلاقة بين المواطن والدولة أمام حكومة الرزاز.
د.خالد العدوان / استاذ النظم السياسية والسياسة المقارنة– جامعة اليرموك
تشير كل من Susan Fiske و Shelley Taylor إلى صعوبة تحديد أن أفعالنا وسلوكنا تعود إلى النزوعية ( العامل الفردي: الذي يرتكز على النزعات الداخلية للانسان؛ أي أن البيئة الداخلية للانسان هي التي تحدد سلوكه) إو إلى الموقفية ( عامل المواقف : التي ترتكز على المواقف الخارجية؛ أي أن البيئة الخارجية التي تحيط بالانسان هي التي تحدد مواقفه وسلوكه). إن تشكيل نزعاتنا الداخلية بالضرورة في الكثير من جزيئاتها تتأثر بالمواقف التي يختبرها الانسان في حياته، والتي تعود مرة أخرى في تأثير هذه النزعات التي شكّلها الانسان إلى التأثير في المواقف في إطار علاقة تبادلية بينهما. وهنا نميّز بين الانسان النفساني والانسان الرشيد.
فالانسان يولد بنزعات معينة وتأثر ويؤثر في البيئة بدرجات مختلفة، وما بين البناء البيولوجي للانسان ونزعاته التي تنمو وتتطور في ظل بيئة نسميها الموقفيه، تصبح هنا القضية برمتها بين قوة الموقف وقوة النزعات.ويقول هارولد لاسويل ( Harold Lasswell) أحد اهم علماء النفس السياسيين، ان العلوم السياسية من دون سير ذاتية هي نوع من التحنيط، وذلك لأهمية دراسة السيرة الذاتية في التحليل النفسي، إذ أن السياسييون يمضون وقتا طويلا في دراسة المؤسسات والابنية السياسية، من دون دراسة عميقة للأفراد ولخصائصهم ومحتواهم النفسي.وهذا أيضا هام جدا لعمل الأجهزة الاستخبارية في تقديراتها وتقييماتها للموقف.
لقد انتجت السلوكيات المختلفة للحكومات الاردنية المتعاقبة تراثا أضعف الصحة السياسية لأبنية وعمليات وقيم النظام السياسي ، وشكّل تاريخ السيرة النفسية للمواطن الاردني، و تفسر الكثير من مواقف الاردنيين تجاه الحكومات المتعاقبة، واصبح يواجه أي مثيرات سياسية مصدرها الحكومة بالسلبية والنقد المستمر سواء أكان محقاً في ذلك أو لا، لان السلوكيات الحكومية المتعاقبة قادت إلى تشوّه عميق في الشخصية الاردنية، وغذت من النزوعية إلى درجة صاغت معها كل ردود الافعال على مجمل السلوكيات والقرارات وحتى البرامج الحكومية. فالمواطن الاردني ، كوّن صورا ذهنية لم تستقر فقط في عقله الواعي ، بل تجاوزته إلى العقل اللاواعي أيضا، وهو ما يفسر بالمجمل مواقف المواطنين من كل ما تقوم به الحكومة من عدم ثقة وتكذيب أو حتى سخرية سياسية أو تقليل من شأن أي برنامج أو سياسيات تصممها الحكومة او تدعو اليه.
وهذه الفكرة بين النزوعية والموقفية تتقاطع على المستوى النفسي مع نظرية نفسية أخرى، تعمّق من الجراح السياسية التي تقف سدا منيعا امام قبول ما تقدمه الحكومة ، وهي نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) لصاحبها ليون فستنجر(Leon Festinger) ، ينطلق هذا التحليل النفسي من نظرية الاتساق المعرفي او نظريات التوازن المعرفي على أساس أن الانسان حتى يتسق ذهنيا، لا بد ان تكون المعلومات التي يتلقاها من البيئة تتناغم مع ما يحمله من معتقدات ( الاتساق والتوازن المعرفي) والا تعترض معها ( التنافر المعرفي)، وفي حال اعترضت – تنافرت – معها ستؤدي الى حالة من الضيق لدى الانسان، وللتخلص نفسيا منها، يقوم بما يسمى بالتحايل المعرفي باستخدام عدة آليات ( على غرار آليات الدفاع النفسي التي قدمها فرويد ) ومنها؛ يبدأ بعملية التجاهل للمعلومات التي تتعارض معها، او التقليل منها، او البحث عن ما يعارضها، او اعتبارها استثناءً. لأن هذا السلوك النفسي المتحايل يقود إلى حالة من السلامة النفسية له، لان التضارب وعدم الاتساق بين الاتجاهات التي يحملها الفرد يقود الى حالة من التوتر والضيق ، حيث ان البشر عموما لا يحبون حدوث هذا النوع من عدم الاتساقية ويبحثون عن آليات كجزء من التحايل لتخفيضه قدر الامكان.
وهنا، تظهر المشكلة السياسية الحقيقية، وهي أن أداء الحكومة ليس محكوما فقط بما تقوم به فعليا على ارض الواقع، بل اهو ايضا يرتبط ارتباطا وثيقا بما يحمله المواطن من معتقدات نفسية حولها، و يبدأ المواطن الاردني الذي يحمل الصور والترسبات والاتجاهات السلبية نحو الحكومة تجاه اي موضوع أو أداء تقوم به، بالتقليل من هذا الاداء أو تقديم معلومات وبيانات تناقض او تخفّض من نوعية الاداء، او حجب نفسه عن ما تقدمه الحكومة فعليا،أو اعتبار أن ما تقدمه الحكومة هو من قبيل المصادفة أو الاداء العابر الاستثنائي غير الدائم، والحكومات تتحمل مسؤولية هذه الصورة الذهنية في الاطار النزوعي لدى المواطن.
إن اسقاط هذه النظرية النفسية على الاداء الحكومي الأردني – إذا جاز لنا إجراء مثل هذه المقاربة للاستفادة من حقل علم النفس، في التحليل السياسي-، تدفع نحو السؤال التالي : ماذا لو تخيلنا أن البيئة النفسية (وجود اتجاهات ومعتقدات وصور ذهنية) لدى المواطنين نحو الحكومة سلبية وتستقر في نوازعه المختلفة، فكيف سيكون الموقف من الاداء الحكومي عموما وتقييمه أو حتى التعامل معه.؟ ، في هذه الحالة سنكون أمام الانسان النفساني الذي يتأثر بما يحمله من معتقدات واتجاهات حول الحكومة، وليس الانسان الرشيد الذي يتكىء على اسس العقلانية في التقييم وإصدار الاحكام، وهنا تتصاعد تعقيدات الموقف في موضوعية تقييم الاداء الحكومي، وعلى هذا المستوى من التحليل يتصاعد منسوب الاشكاليات الحقيقية التي ترافق الحديث عن اداء الحكومة والتعقيدات التي تحيط بمحددات واسس ومعايير التقييم، بما في ذلك مسألة الثقة بأدائها.
فلو افترضنا أن حكومة د.الرزاز أو أية حكومة قدمت اداءً ملحوظا على المستويين الكمي والنوعي، ومن المنظور الواقعي العقلاني، الذي يشير إلى وجود أداء لها ( أي الموقفية) ، إلا أن الصورة الذهنية لدى المواطن عن الحكومة ( النزوعية) كما هو الحال للمؤسسة البرلمانية لدى المواطن منخفضة ومشوّها. وبالضرورة سيتأثر الحديث عن الاداء بموازاة هذه الصورة. وستزيد صورة العلاقة بين الدولة والمواطن صعوبة مع وجود التحايل المعرفي، حيث أن فكرة ” ان الحكومة تقوم بأداء جيد ” غير مقبولة لدى معتقدات المواطنين، وهو الأمر الذي يدفعهم الى التحايل والبدء مباشرة برفض ما تقوم به، وقد يكون المواطن على الارجح غير ملوم بذلك بسبب الإرث الذي تراكم عبر الزمن على جدران النفسية ( النزوعية ) لدى المواطن.
باختصار، إذا اردت الحكومة الحالية أو الحكومات القادمة من بداية جادة لتصميم وهندسة علاقة حقيقية بين المواطن والدولة، فإن الموضوع لا يكون ببرامج ومشاريع ، لأن جميعها حتما هي لاحقة ومخرحات ونواتج لقضية مهمة جدا وحاسمة في كل ما تقوم به الحكومات، وهي إعادة البناء السيكولوجي للمواطن الأردني نحو الحكومات وما تقوم به، هذا البناء الذي امتلأت نوازعه بتشوهات كثيرة انتجتها السلوكيات الحكومية عبر زمن طويل لم تراع أهمية الترسبات النفسية والارث النفسي والسير الذاتية للمواطنين، وأخشى أن تراكم هذه النزوعية وعدم البدء الجاد بالاهتمام بها،أن تكون العقبة الكأداء أمام أي جهد حكومي – إن وجد – في التطوير والتنمية.
وهذا التحليل النفسي – السياسي يفسر سلوك المواطن واتجاهاته في التعامل مع منتوجات الحكومة على كل المستويات، وحتى لو كانت منتوجات ايجابية في بعضها من المنظور الواقعي ( الموقفية) إلا أن ما يكتنزه المواطن من نزوعية نحو الحكومات سترفض ذلك، ولن تحظ بأي قابلية للحياة.
إذ أردنا لأي تصميم وهندسة للعلاقة بين المواطن والدولة أن تكون قابلة للحياة ( Viable ) أن تبدأ من هذه المقاربة لأثرها العميق في تمهيد الطريق لانشاء علاقة متينة ودائمة. حتى لا نقع في فخ التنافر المعرفي، أو الصراع بين النزوعية والموقفية، وهي تحتاج إلى تحديد البنية النفسية، والبدء ببرامج حكومية لتنقية هذه النفسية من الشوائب التي تراكمت عبر السنين، وهذا يعني إعاد تصميم النهج الحكومي من حيث أبنيته وعملياته وحتى قيمه وثقافته، حتى تكون عمليات التحول صادقة وحقيقية يقبلها الناس ويبدأ بالتدريج القبول بما تفعله أو ما تقوم به الحكومات، وبدون ذلك ستكون البرامج والخطط والسياسات الحكومية تعاني من محاولات الرفض وعدم القبول والتشكيك وغيرها من المظاهر غير الصحية التي أصبحت تتصاعد في حياتنا السياسية، وهذا سيساعد نظامنا السياسي بالضرورة. ويمكن تطبيق التحليل السابق على مجمل عمليات النظام السياسي وعمليات وأبنيته المختلفة وخصوصا البرلمان أيضاً.